الخميس، 20 أكتوبر 2011

مساجدنا والسياسة

مساجدنا والسياسة
عبد الرحمن المراكبي

مع اقتراب موعد الانتخابات يكثر الجدل في وسائل الإعلام حول استخدام دور العبادة في الدعاية الانتخابية للأحزاب أو المرشحين ، وتتفاوت وجهات النظر حول هذه المسألة ما بين مؤيد بالكلية ومعارض بالكلية ، وتبقى فئة قليلة هي التي تقف موقفاً وسطاً بين هذين الضدين .

يطالب البعض بضرورة حظر استغلال المساجد والكنائس في الدعاية الانتخابية زاعماً أنه لا علاقة للدين بالسياسة ، ويسيء البعض الآخر فيوجب هذا الاستخدام ويتخذ من مسجده أو كنيسته منبراً  للدعاية لحزب أو شخص معين ، ولا شك أن في كلا الوجهتين تطرف واضح ، وسوف أحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على فساد هذين الرأيين .

وللرد على من يطالب بإصدار قانون لمنع استخدام المساجد في السياسة أقول :
إن السياسة جزء لا يتجزأ من الدين ، فالإسلام دين ودولة ، عقيدة وشريعة ، وللمسجد دور هام في إدارة شئون المسلمين ، فهو ليس مجرد دار للعبادة والصلاة فحسب - كما يزعم البعض - ، وقد كان المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمثل محور أنشطة المسلمين كلها ، فكان جامعًا للعبادة ، وجامعة للعلم ، وبرلمانًا للتشاور ، ومحكمة للقضاء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقي فيه خطبه ويصدر توجيهاته في أمور الحياة كلها دينية واجتماعية وسياسية.


وقد استمر هذا الأمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانت بيعة الخلفاء الراشدين تتم في المسجد وكان المسجد منطلقهم لشتى الأعمال ، السياسية منها وغير السياسية ، ولم ينفك دور المسجد فاعلا حقيقيا في كل الأحداث ، وعلى مر العصور .

وفي مصر على وجه الخصوص كان للجامع الأزهر دور عظيم في قيادة الشارع المصري ، وقاد الأزهر بشيوخه وعلمائه المقاومة ضد الاحتلال بكافة أنواعه ، وكان للأزهر مواقفه المشهودة في التصدي لظلم الحكام والسلاطين .

ويروي الجبرتي في يومياته بأن أمراء المماليك اعتدوا على بعض فلاحي مدينة بلبيس فحضر وفد منهم إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي وكان شيخ الجامع الأزهر ، وقدموا شكواهم له ليرفع عنهم الظلم ، فغضب وتوجه إلى الأزهر ، وجمع المشايخ ، وأغلقوا أبواب الجامع ، وأمروا الناس بترك الأسواق والمتاجر ، واحتشدت الجموع الغاضبة من الشعب، فاستسلم مراد بك ورد ما تم اغتصابه من أموال للمظلومين ، لكن العلماء طالبوا بوضع نظام يمنع الظلم ويرد العدوان ، واجتمع الأمراء مع العلماء ، وأعلن الأمراء أنهم سيُبطلون المظالم والضرائب وسيكفون عن سلب أموال الناس ، وكتب قاضي القضاة وثيقة على الأمراء بذلك .
ومع مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر اجتمع العلماء في الجامع الأزهر ، ولم يكن الغزاة قد عبروا النيل إلى القاهرة بعد ، وأرسلوا برسالة إلى الفرنسيين يسألونهم عن مقاصدهم من دخول مصر ، واستدعى نابليون العلماء والمشايخ لمقابلته، وعلى رأسهم الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي ، وأسفرت المباحثات عن تأليف ديوان من علماء الأزهر يشرف على حكم القاهرة وتدبير شؤونها.
ولما ظهر فساد الفرنسيين قاد شيوخ الأزهر الشعب في ثورة القاهرة الأولى عام 1798، وثورة القاهرة الثانية عام 1800، وبعد خروج الفرنسيين قادوا ثورة 1805م التي انتهت باختيار محمد علي واليا على مصر.
كما كان للجامع الأزهر دور كبير في ثورة 1919 م ضد الإنجليز ، وكان طلبة الأزهر في مقدمة الثورة .
وأثناء العدوان الثلاثي على مصر لجأ جمال عبد الناصر إلى الجامع الأزهر ووقف خطيباً على منبره معلناً بدء المقاومة الشعبية ضد العدوان ، و كان لهذه الخطوة مفعول السحر عند المصريين الذين تدفقوا على منطقة قناة السويس ليندرجوا في صفوف المقاومة التي انتهت بجلاء ثلاثة من أكبر قوى العالم آنذاك ( إنجلترا وفرنسا وإسرائيل ) عن البلاد ، وفي حرب أكتوبر 1973 م كان للمسجد دوراً عسكرياً ريادياً عظيماً .
ولا أدري لماذا إذن نريد سحق هذا التاريخ المجيد والدور العظيم للمسجد ونسعى لاختزاله في كونه مكاناً للعبادة فقط ، ونسعى لحرمان المسجد من هذا الحق الطبيعي والمنطقي والتاريخي !!.
* * * * *
وللرد على من يسيء في استخدام المسجد في السياسة ويستغل المنبر في تصفية الحسابات مع أشخاص مخالفين أو الدعاية للحزب الذي ينتمي إليه أقول :
لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إنشاد الضالة في المسجد ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك ، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا : لا رد الله عليك ضالتك "(1) ، وزاد مسلم : " فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا " (2) .
ولا شك أن الأولى إذن ألا تُستغل دور العبادة في تحريض الناس للدخول في حزب معين أو ترشيح مرشح معين ، ومن يقوم بذلك نقول له : لا أنجح الله حزبك ، لا أنجح الله مرشحك .
وكما أنه من المنطقي أن يكون عنوان إحدى الخطب أو المواعظ الحديث عن أهمية النظافة الشخصية ، فليس من المنطقي أن يقوم الشيخ بالدعاية لمنتج بعينه من المنظفات .

والواجب على أئمة المساجد أن يقوموا بتقديم النصيحة لعموم المسلمين بكيفية الاختيار بين المرشحين ، فيتحدثوا عن الأمانة والقوة والحفظ والعلم وغير ذلك من الشروط الواجب توافرها فيمن يلي شيئاً من أمور المسلمين ؛ كما يجب أن يكون خطاب أئمة المساجد خطاباً جامعاً ، فلا تُحوَّل المساجد إلى ساحات خاصة وفق التعددية ، أو إلى ساحات للتدافع أو الصراع بين التيارات المختلفة ، ولا بد أن يتجرد الخطيب الذي يتحدث في السياسة عن الأهواء والالتزامات الحزبية وأن يتحدث بمصداقية ودون تجريح لأحد .

إن المساجد موضوعة لأمر المسلمين جميعاً ، ولكل ما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم ، ومن خلال المسجد يتعلم الناس الحق والخير والفضيلة في شئون حياتهم كلها ، روحية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية .

على خطباء المساجد تجنب إثارة الحقد والضغينة بين المصلين الذين تجمعهم بيوت الله ، عليهم أن يجنبوا مساجد الله كل ما من شأنه أن يزيد الشقاق والخلاف والفرقة ، عليهم أن يجنبوا المساجد أن تكون ساحة للصراع السياسي بين أبناء الحي الواحد والوطن الواحد .

ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض الخطباء القيام بتحويل خطبة الجمعة إلى نشرة أخبار ، أو برنامج سياسي يقدمه الخطيب ويستضيف فيه نفسه ، فهو من يسأل ومن يجيب في نفس الوقت وكأنه المتحدث الوحيد في برنامج " الرأي واللا رأي آخر" ، وللأسف الشديد فأغلب هؤلاء الخطباء يفتقرون إلى الرؤيا الواضحة والخبرة الحياتية والشرعية الكافية ، ولا يملكون الدراية الكافية واللازمة لأبعاد القضايا المطروحة .
والخلاصة : أن استخدام المسجد في السياسة لا يُمنع مطلقاً ، ولا يُباح مطلقاً ، والذي يُمنع هو التعصب الحزبي أو الطعن والتجريح والتشهير في أشخاص بعينهم ، فالانتصار لقضايا الأمة له مكان على منبر المسجد ، بينما الانتصار لحزب معين أو مرشح معين مكانه خارج المسجد ، وكذلك فالانتصار للشريعة مكانه المسجد ، بينما الانتصار لمذهب فقهي بعينه ليس مكانه المسجد .


(1) صحيح الجامع للألباني – حـ 573
(2) صحيح مسلم حـ 1288

هناك 5 تعليقات:

  1. مقال رائع ........واعتقد لو كان يوجد من الائمة من هو مؤهل و في مثل رجاحة علماء الازهر الراحلين ما وصلنا لهذه المرحلة

    ردحذف
  2. ايه الجمال دا
    مفاجأة رائعة ان اجدك بهذا الإبداع
    ما شاء الله
    وانا ايضا هذا ما كنت افكر به فإن أنجح الفترات السياسية في التاريخ كانت تنبع من المساجد والأئمة العظام

    ردحذف
  3. ايه الجمال دا
    مفاجأة رائعة ان اجدك بهذا الإبداع
    ما شاء الله
    وانا ايضا هذا ما كنت افكر به فإن أنجح الفترات السياسية في التاريخ كانت تنبع من المساجد والأئمة العظام

    ردحذف
  4. ايه الجمال دا
    مفاجأة رائعة ان اجدك بهذا الإبداع
    ما شاء الله
    وانا ايضا هذا ما كنت افكر به فإن أنجح الفترات السياسية في التاريخ كانت تنبع من المساجد والأئمة العظام

    ردحذف
  5. ايه الجمال دا
    مفاجأة رائعة ان اجدك بهذا الإبداع
    ما شاء الله
    وانا ايضا هذا ما كنت افكر به فإن أنجح الفترات السياسية في التاريخ كانت تنبع من المساجد والأئمة العظام

    ردحذف