‏إظهار الرسائل ذات التسميات السياسة الشرعية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السياسة الشرعية. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 5 أكتوبر 2009

الديمقراطية والنظام السياسي الإسلامي

الديمقراطية والنظام السياسي الإسلامي

سادت الفكرة الديمقراطية العالم ، خاصة بعد انهيار الأنظمة الدكتاتورية ، حتى أضحى الحكم الديمقراطي أمل كل الشعوب . وقد سرت هذه الروح فى أذهان أكثر المسلمين ، فظهرت الأفكار التى تدعو إلى تقليد الغرب فى كل شيء ، وظهرت أفكار أخرى ترى أن الديمقراطية تجد أساسها فى الإسلام ، فالإسلام هو الديمقراطية فى أسمى وأرفع أوضاعها .

* ولكن إلى أى حد تتشابه الديمقراطية مع نظام الإسلام السياسي ؟

وهل يصل هذا التشابه إلى حد التطابق ، والقول بأن الإسلام هو الديمقراطية فى أسمى أوضاعها ؟ أم أن أوجه الخلاف بين النظامين كثيرة لا يمكن تجاهلها ؟ الديمقراطية هى حكم الشعب صاحب السيادة بواسطة الشعب فهى ترمى إلى تملك السلطة بواسطة الشعب ، وتهدف إلى تحقيق المساواة القانونية بين الأفراد وإطلاق حرياتهم ، ولهذا فإن المذهب الفردي الحر هو أساس الديمقراطية فهل يتحقق النظام الإسلامى مع الديمقراطية فى هذه الأسس ؟ والحقيقة أن الديمقراطية والنظام السياسي الإسلامى لا يتطابقان قد نجد هناك بعض أوجه الشبه بين النظامين ، ولكننا لا نعدم أبداً أوجهاً للاختلاف .

* الإسلام والديمقراطية ومبدأ سيادة الأمة

· مبدأ سيادة الأمة هو لب الديمقراطية وأساسها المتين والسيادة هى تلك السلطة العليا التى لا تضارعها سلطة أخرى فإذا كانت السيادة للأمة كانت لإرادتها تلك السلطة العليا ولما كانت الأمة فى مجموعها يستحيل عليها ممارسة مظاهر السلطة والسيادة ، فإن أفراد الأمة يختارون نواباً ينوبون عنها فى ممارسة مظاهر السيادة والسلطان عن طريق الانتخاب وتعبر الأمة عن إرادتها فى صورة القانون ، ويمكن للأمة أن تصدر ما تشاء من قوانين ، ولا يحد من إرادة الأمة شيء . · وقد تأثر بعض المسلمين بهذا المبدأ وفُتِنُوا به ، ثم نظروا إلى النظام الإسلامى فوجدوا أن الأمة هى التى تختار حاكمها ، وتراقبه وتناصحه ، وتحاسبه ، وتملك وحدها عزله إن حاد عن الطريق السليم ، فالحاكم وكيل عن الأمة يستمد سلطانه منها ، أو هكذا ينبغى أن يكون الحاكم فى المجتمع المسلم وانتهى هؤلاء إلى أن الأمة هى صاحبة السيادة فى الدولة الإسلامية ، وأن الأمة هى مصدر السلطات ، وأن المسلمين هم أو من قرر هذه الحقيقة وعمل بها . · ولعل الذى دفع هؤلاء إلى هذه النتيجة هو نفى أن يكون الخليفة هو صاحب السيادة فى الدولة الإسلامية وما يتبع ذلك من كون النظام السياسي الإسلامى نظاماً استبدادياً اوتوقراطياً ، وكذا نفى أن تكون السلطة فى الدولة الإسلامية دينية أو بمعنى أخر ثيوقراطية ، وإنما هى سلطة مدنية مرجعها الأمة . ودفعهم إلى ذلك أيضاً ما للأمة من سلطة واسعة فى اختيار الخليفة ، وأن إجماع الأمة حجة من الناحية الشرعية حيث عصم الله هذه الأمة من أن تجتمع على باطل أو ضلالة وفى الحديث " لا تجتمع أمتي على ضلالة " (1) . والأمة كذلك مسئولة عن إقامة الدين وشرائعه وأحكامه ولهذا فإن نصوص القرآن والسنة تتوجه بالخطاب لعموم المؤمنين المكلفين بإقامة هذه الأحكام . ودفعهم إلى ذلك أيضاً تلك الجاذبية التى تتمتع بها الأنظمة الديمقراطية التى تقوم على مبدأ سيادة الأمة ، أو السيادة الشعبية . ولككنا لا يمكن أن نسلم بهذا القول ، فالأمة فى النظام الإسلامى لا تملك هذه السلطة المطلقة التى تملكها الأمة فى النظام الديمقراطي ، ولا تملك أن تصدر ما تشاء من قوانين لأنها مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية . فليس للأمة أن تخالف نصاً قطعياً من نصوص الكتاب والسنة ، وحتى فى الدائرة التى لا تحكمها النصوص لا يجوز للأمة أن تشرع ما تشاء من قوانين وإنما هى مقيدة بألا تخرج عن روح الشرع . لذلك حرص معظم القائلين بهذا القول على أن ينصوا على أن سيادة الأمة فى النظام الإسلامى مقيدة بما فى نصوص الشرع ولكن هذا القيد يهدم مذهبهم من أساسه ، فالأمة لا يمكن أن تعد بحال صاحبة السيادة فى الدولة مع اعتبار هذا القيد وذلك لأن تقيدها بنصوص الشرع يؤدى حتماً إلى أن السيادة تكون لأحكام الشرع الإسلامى ، أى لله رب العالمين وليست للأمة كما يزعم هؤلاء . ومن يرجع إلى ما كتبه علماء المسلمين قديماً فى أصول الفقه فى مبحث الحكم يعرف أن علماء المسلمين قد قرروا هذه الحقيقة وأجمعوا عليها . · إن نفى السيادة عن الأمة لا يعنى أن النظام السياسي الإسلامي نظام استبدادي ، لأن الحاكم مقيد بأحكام الشرع الإسلامى فلا يجوز له الخروج عليها ، وقد أوجب الشرع على الأمة مراقبة الحكام ومناصحتهم ، بل وعزلهم إن خرجوا عن إطار الشرعية ، ورفض رفضاً باتاً مبدأ الطاعة فى المعصية ، وهو لا يعنى كذلك أن النظام الإسلامي نظام ثيوقراطى وذلك لأن الحاكم فى الدولة الإسلامية لا يحكم بوصفه نائباً عن الله ، أو بحق إلهى مباشر أو غير مباشر وإنما يحكم بوصفه وكيلاً عن الأمة التى كلفها الله بإقامة شريعته وهو مقيد بأحكام الشرع الإسلامي لا يمكنه الخروج عليها وإلا عزلته الأمة وولت غيره . إن مبدأ سيادة الأمة لا يتلاءم إلا مع نظام علماني يقصى الدين عن الدولة والسياسة ، ويخول للأمة أن تقرر ما تشاء مما يوافق مصالحها دون أن ترجع فى ذلك لأحد ، أما النظام الإسلامى فهو لا يغفل دور الأمة فى إدارة شئونها ، ولكنه لا يغفل أيضا القواعد والضوابط التى تحكم الأمة فى تصرفاتها .

* ويمكن تلخيص هذه القواعد على النحو التالى

1. السيادة فى الدولة الإسلامية لله تعالى متمثلة فى أحكام شريعته الخالدة التى تعبد الناس بها . 2. الأمة مسئولة عن تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية لأنها حاملة الأمانة والمخاطبة بأحكام الشريعة . 3. الأمة تختار الحاكم الذى ينوب عنها فى تنفيذ أحكام الشريعة وسياسة الأمور الدنيوية على مقتضاها ، وذلك لأن الأمة مجتمعة لا تستطيع أن تقوم بهذه المهام . 4. الحاكم لا يمارس سلطاته نيابة عن الله تعالى ، وإنما نيابة عن الأمة ، ولذلك فللأمة الحق فى مراقبته ومناصحته ومحاسبته وعزله إن اقتضى الأمر . 5. لا سيادة ولا وصاية لفرد من الأفراد ولا لطبقة من الطبقات على الأمة .

· وبهذا يتضح لنا أن النظام السياسي الإسلامى لا يتفق مع الديمقراطية فى أدق خصائصها وأهم أسسها ، ولا يعنى هذا أن النظام الإسلامى يفتقد مزايا الديمقراطية لأنه ما من ميزة أو فضيلة يأتى بها النظام الديمقراطي إلا ويتمتع بها النظام الإسلامى على الوجه الأكمل ، ويتضح لنا هذا حين نقارن بين النظام الإسلامى والديمقراطية من حيث إقرار الحقوق الفردية وإطلاق الحريات ، وقد سبق لنا الحديث عن كفالة الحقوق والحريات كمبدأ من المبادئ التى يقوم عليها نظام الحكم الإسلامى وبطبيعة الحال لن نكرر ما سبق أن أوردناه ، ولكننا نشير إشارات بسيطة لتتضح لنا هذه الحقيقة

من هذه الإشارات :-

1. أن هذه الحقوق والحريات التى تتغنى بها الديمقراطية قد عرفها المسلمون منذ ما يقرب من خمسة عشر قرناً . 2. ولا يفوتنا أن الفكر البشرى قد تطرف فى إقرار هذه الحقوق تطرفاً واضحاً ، ولا تزال آثار هذا التطرف واضحة فى المجتمعات الديمقراطية ، بينما جاءت الشريعة الإسلامية بنظام متكامل فيه إقرار لهذه الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ووسائل حمايتها والحفاظ عليها فى ثوب أخلاقي قشيب دونما إفراط أو تفريط . 3. وإذا كان الفكر الديمقراطي قد نجح فى بلورة هذه الحقوق والنص عليها فى إعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير ، فإن الإسلام قد تجاوز هذا الحد فعدها من الواجبات التى لا يجوز للفرد ولا للجماعة التنازل عنها أ, السماح بالنيل منها .

· إن هذه الحقوق والحريات تستند مباشرة إلى الشرع الإسلامى فتستمد قوتها من قوته وخلودها من خلوده ، وقدسيتها من قدسيته ، فلا يملك أحد كائناً من كان المساس بها إلا إذ نال من شريعة الإسلام ذاتها .

· إن هذه الحقوق لا يكتفي الإسلام بإقرارها من وجهة نظرية عامة بل يعضدها بما فى تفصيلات الشريعة مما يتعلق بالحقوق ويقرر لها صفة الإلزام .

· وخلاصة هذه النتائج أن الإسلام بإقراره للحقوق والحريات قد تجاوز إلى حد بعيد ما قررته الديمقراطية الليبرالية فى العصر الحديث ، فما زالت هذه الأنظمة تخوض فى بركة لا أخلاقية فى إقرارها لهذه الحقوق ، حتى صار الشواذ يؤثرون على القرار السياسي فى بعض هذه البلاد ، ويدعون للتمرد على الدين وهدم الأخلاق إلى حد بعيد موقف الإسلام من المذهب الفردي الحر : لاشك أن المذهب الفردي هو الوجه الاقتصادي للديمقراطية والإسلام لا يميل إلى هذه النزعة الفردية البحتة ن بل يهدف إلى تحقيق صالح الفرد والجماعة معاً .

فالملكية فى الإسلام مصونة ، لا يملك أحد أن يعتدي عليها ولكن هذا الحق لا ينبغى أن يتجاوز به صاحبه الحدود المشروعة فى الاكتساب والإنفاق ، لأن مجتمع المؤمنين يعلم يقيناً أن الملك لله وحده ، والإنسان مستخلف فيما حوله الله وإنها أمانة يحاسب عنها الإنسان ، ومن ثم فالإسلام لا يبيح الاحتكار ولا الاستغلال ، ولا أكل أموال الناس بالباطل ، ولا الربا ولا القمار قال تعالى : " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " وقال " إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ " . والشريعة توجب على المالك – المستخلف – ألا يتجاوز هذه الحدود الشرعية فى الاكتساب ، وتوجب عليه ألا يتجاوزها فى الإنفاق ، وتجعل للفقير حقاً معلوماً فى مال الغنى ، وتفصيل ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام ، بينما الديمقراطية لا تكاد تعرف من ذلك شيئاً ، ولهذا يتخبط المشرع الوضعي يمينا ويساراً فى تقديره وضبطه لهذه الحقوق .

· نستخلص من ذلك أن النظام السياسي الإسلامي يختلف مع الديمقراطية اختلافاً بيناً من حيث الأساس والمبدأ ومن ثم يكون التجاوز أن يوصف النظام الإسلامي بأنه نظام ديمقراطي ، كما أن مدلول كلمة الشعب تختلف بين النظامين ، فالشعب فى منظور الديمقراطية يرتبط بالفكرة القومية ، بينما هو فى منظور الإسلام أوسع من ذلك بكثير بحيث يضم كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بالإضافة إلى أهل الذمة من غير المسلمين .

· وإذا كنا قد قارنا بين الديمقراطية وبين النظام السياسي الإسلامى من حيث الأساس ، فإننا نجد صعوبة بالغة فى المقارنة بينهما من حيث الشكل والتفصيلات الجزئية ، لأن النظام السياسي الإسلامى قد ترك هذه التفصيلات لظروف الزمان والمكان ، بحيث تمارسها الأمة بالشكل الذى يحقق لها المصلحة .

· ومع ذلك فإننا نستطيع أن نتلمس بعض أوجه الشبه من حيث الشكل بين النظامين ، فلا شك أن النظام النيابي هو أقرب أشكال الديمقراطية للنظام السياسي الإسلامي خاصة فى شكله الرئاسي . وكذلك فإن الشبه بين نظام الانتخاب وبين نظام البيعة عند المسلمين واضح .

· وعلى كل حال فالنظام الإسلامي كما قلنا من قبل يتوخى المصلحة فى كل ذلك ، ولا مانع من الاستفادة من تجارب الآخرين فى كل ما سكت عنه الشرع ، ولا شك أن حديثنا السابق عن التعددية لأبلغ دليل على ذلك .

· وبعد ذلك فهل تعتقد أيها المسلم أن النظام الإسلامي صورة من صور الديمقراطية ؟ وهل تعتقد أن حل ما نعانيه من أزمات يكمن فى الاعتصام بالديمقراطية شكلاً وموضوعاً ؟ أم أننا فى حاجة ماسة إلى الاعتصام بالله تعالى وبدينه وشرعه " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " ( الشورى 10 ) .

---------------------

(1) حسن . أخرجه ابن ماجه (3950) وغيره من حديث أنس مرفوعاً ، وفى سنده مقال ، وأخرجه ابن أبى عاصم فى السنة ( رقم 85 ) بسند جيد عن أبى مسعود موقوفاً ، وكذا أخرجه الطبرانى ، وفى الباب عن ابن عمر وغيره وطرقه لا تخلو من مقال ، لكن يقوى بعضها بعضاً ، وانظر التلخيص ( 3/141) ، والصحيحة ( رقم 1331 ) ، والضعيفة (1510) ، والسنة لابن أبى عاصم ( رقم 80،82 – 85،92 ) .

المعارضة فى النظام السياسي الإسلامي

المعارضة فى النظام السياسي الإسلامي

قد يكون حديثنا عن الطاعة وأنها دين وقربة وتآلف ووحدة قد أثار فى أذهان البعض نبذ فكرة المعارضة فى النظام الإسلامى على أساس أنها نبذ للطاعة وخروج عن الجماعة ، وقد يفهم البعض الآخر أن نظام الشورى لا يمكن تحقيقه عملاً إلا فى ظل تعددية حزبية ، تسمح بقيام المعارضة وبتنظيمها . والحق أن النظام السياسي الإسلامى لا يؤيد فكرة المعارضة ولا يرفضها فى ذات الوقت ، وإنما ينظر إليها باعتبارها فكرة جديدة تخضع لضوابط المصلحة . إن حديثا عن الطاعة لا يعنى نبذ فكرة المعارضة تماماً ، فالمعارضة لا تكون فى كل صورها خلعاً للطاعة أو خروجاً على الجماعة ، بل إن آية الطاعة نفسها تفتح مجالاً واسعاً للمعارضة حين يأمر ولاة الأمور بما يخالف شرع الله تعالى ، وكذلك الأحاديث التى قيدت الطاعة بالمعروف ، لأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق . وكذلك الحديث عن الشورى ، وافتراض الاختلاف فى الرأى بين أهل الشورى ، والحديث عن المناصحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يفسح مجالاً واسعاً للمعارضة المشروعة لكل ما يخالف الحق . بل إن السوابق التاريخية فى عصر الرسالة وفى عصر الخلافة الراشدة تبين لنا أن المعارضة كانت معروفة ومكفولة فى إطار محدد ، وبضوابط معينة . فقد عارض كثير من الصحابة ما ورد فى صلح الحديبية من بنود جائرة . قال عمر بن الخطاب ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ألست نبي الله حقاً ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نُعطى الدنية فى ديننا إذن ؟ قال : إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري (1) . وهنا لم يعترض النبى صلى الله عليه وسلم على معارضتهم إياه ، وإنما بين لهم أن ما يفعله هو الأصلح ، فليس فيه معصية لله ، وإنما فيه نصر للإسلام والمسلمين ، فقال لهم : إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان هذا الصلح نصراً عزيزاً للمسلمين ، وسماه الله تعالى فتحاً مبيناً فقال : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " ( الفتح : 1 ) . وفى تقسيم غنائم هوازن وغطفان ، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة أموالاً كثيرة ، واعترض بعض الأنصار على ذلك فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين لهم صواب فعله حتى رضوا جميعاً (2) . فهذه بعض صور المراجعة والمعارضة الجائزة ، وقد أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر على المعترضين ، ولا بين أن معارضته لا تجوز ، مع أنه رسول الله المؤيد بوحي السماء ، وكثيراً ما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه إلى رأى معارضيه إن استشعر المصلحة والصواب فيه . ففي غزوة تبوك قل طعام الجيش ، فاستأذن الناس فى نحر بعض الإبل ليأكل منها الجند ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك ، فجاءه عمر معترضاً وقال : إذن يقل الظهر ، ثم اقترح على النبى صلى الله عليه وسلم أن يجمع ما تبقى من الطعام ويدعو عليه بالبركة ، ففعل النبى صلى الله عليه وسلم ذلك حتى أكل الجيش كله (3) . وفى عصر الخلافة الراشدة اعترض سعد بن عبادة على مبايعة الصديق ، ولم يجبره أحد على البيعة . وفى هذا المسلك إقرار لفكرة المعارضة فى ترشيح رئيس الدولة بل والامتناع عن بيعته دونما حرج طالما كان ذلك فى حدود احترام حرية الرأى ، أما إذا تعدى هذه الحدود إلى الدعوة إلى نبذ الطاعة والخروج على الحاكم ، فإنه يُعد بذلك عدواناً على الشرعية يلزم القضاء عليه حفاظاً على الجماعة ووحدة الأمة . وقد اعترض بعض الصحابة على مسلك عمر ابن الخطاب عندما حبس أرض الخراج فى العراق والشام ومصر على مصالح المسلمين ولم يقسمها بين الغانمين ، ولكن أغلبهم وقف إلى جانب عمر فى اجتهاده (4) . وإذا كانت هذه بعض صور المعارضة الجائزة ، فإن هناك صوراً للمعارضة لا تجوز لأنها تخرج عن إطار الشرعية إلى إطار الطعن والهدم لبنيان الدولة . والمثال الواضح على هذا النوع اعتراض الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمته ، واتهامه إياه بالجور ، فقال : اعدل يا محمد . وقد رفض النبى صلى الله عليه وسلم هذا المسلك لأن فيه طعناً فى دين الله باتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال له النبى صلى الله عليه وسلم : ( ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ) (5) . وكذلك اعترض الخوارج على أمير المؤمنين على بن أبى طالب فى قضية التحكيم ، وخروج هؤلاء الناس على جماعة المسلمين لأن الفارق بين الخروج وبين المعارضة السلمية المشروعة كبير ، لهذا قال لهم على : إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ، ولا نمنعكم نصيبكم من الفىء ما دامت أيديكم معنا ، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تقاتلون .

حدود المعارضة فى النظام السياسي الإسلامى :

إذا كنا قد قررنا من قبل جواز المعارضة فى النظام السياسي الإسلامى واستشهدنا لذلك بسوابق تاريخية عديدة ترجع إلى العصر الأول وهو عصر الرسالة والخلافة الراشدة ، فإننا نتسائل ما هى حدود تلك المعارضة ، وكيف تتشكل ؟ هل هى معارضة فردية أم جماعية منظمة ؟ وقبل أن نجيب على هذه الأسئلة نقرر حقيقتين لا ينبغى أن نغفل عنهما ونحن نخوض غمار هذا الموضوع .

الحقيقة الأولى : أن الدولة الإسلامية دولة دينية شرعية تقوم على مبادىء سماوية لا يجوز لأحد أن يتخطاها ، ولا يجوز للإرادة الشعبية أن تخالفها إلا إذا تخلت عن دينها .

الحقيقة الثانية : أن الشريعة الإسلامية أغفلت عن عمد تنظيم هذه الموضوعات ، تاركة إياها لظروف المجتمع فهى متروكة للجماعة تنظمها حسبما يتوافق مع مصالحها .

ويمكن أن نستنتج من ذلك نتائج عدة : أولاً : الإسلام لا يسمح بمعارضة تستهدف النيل من النظام الإسلامى ، وعلى هذا فلا يجوز قيام أحزاب دينية طائفية تعارض النظام الإسلامى ، وتسعى لإقصائه عن السلطة ، ولا يجوز قيام أحزاب علمانية تسعى إلى نبذ الدين وإقصائه عن الدولة ، ولا يجوز قيام أحزاب تتبنى أيديولوجية تخالف الإسلام وتعتبر الدين أفيون الشعوب كالماركسية . ولا يجوز للمعارضة أن تنال من الإسلام كدين ، فتناقش أمراً من الأمور التى تتعلق بأصول الدين ، أو من المعلوم من الدين بالضرورة ، فترفضه أو تسعى لتغييره . فالمعارضة لا يجب أن تخرج فى تنظيمها .

ولا فى أفكارها عن الإطار العام للنظام الإسلامى ، وذلك لأن هذا الإطار محدد بنصوص شرعية يجب الوقوف عندها ، ويحرم تجاوزها أما فى داخل هذا الإطار فالمعارضة جائزة . وذلك لأنها تؤدى إلى تقليب وجوه الرأى لاستخراج أفضل الحلول والقرارات وذلك يؤدى إلى منع الاستبداد وتحقيق الشورى عملاً . ثانياً : المعارضة التى يشجع النظام الإسلامى عليها هى تلك التى تهدف إلى تحقيق المصالح العامة للأمة الإسلامية . ثالثاً : النظام السياسي الإسلامى لا يتقيد بأى نظام آخر ، فلا يقلد نظاماً معيناً ، ولا يرفض أى أسلوب يحقق له المصلحة المنشودة . رابعاً : لا يجوز أن نترك المعارضة ميدان الجدل والنقاش إلى ميدان الخروج والقتال ، ومن ثم لا يقر النظام الإسلامى حزباً بوليسياً أو عسكرياً مسلحاً . خامساً : لا يعنى المعارضة خروجاً على الطاعة ، وإنما هى مرتبطة بالجماعة والوحدة ، فالتعددية لا تعنى الفرقة ، فالافتراق فى الدين مذموم شرعاً ، والتعددية فى الفكر وتقديم المشورة محمود شرعاً وعقلاً ، وبها يزداد الفكر الإسلامى نماءً وخصوبة ، يشهد لذلك ما أورده الفقهاء من أمثلة لهذه التعددية فى أمور الاجتهاد والاستنباط ، دون أن يعيب بعضهم على بعض ، وإنما غايتهم الحق ، ولسان حال كل منهم " رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب " . وقد يرى البعض أن ما انتهينا إليه من إقرار للمعارضة والتعددية أمراً يخالف الشرع ، فالنظام الإسلامي لم يعرف التعددية فى صورتها الحزبية ، بل إن النصوص تواترت بذم الأحزاب والحزبية . والحق أن القـول بأن التعددية أمر يخالف الشرع الإسلامي لا دليل عليه ، بل إن السوابق التاريخية تشهد بأن التعـددية المحكومة بالإطار الشرعي العام أمر محمود يحقق مصلحة الأمة . أما القول بأن النظام الإسلامي لم يعرف التعددية الحزبية فى صورتها المعاصرة فهو حق ، ولكن النظام الإسلامى شهد صوراُ للتعددية تلائم ما كان عليه العصر من بساطة . وأما القول بتواتر النصوص فى ذم الحزبية ، فغير صحيح ، لأن الأحزاب التى ذمتها النصوص هى أحزاب الشرك والكفر ، أما الأحزاب التى تلتزم الإسلام ، وترضى بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً ، فهي أحزاب الإيمان والله تعالى جعل المؤمنين حزباً " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " .

--------------------

(1) رواه البخارى (2) البخارى (3) مسلم . (4) أبو عبيد القاسم بن سلام – كتاب الأموال ص 59 – 60 . (5) متفق عليه .

وكتبه د . جمال المراكبى

السبت، 3 أكتوبر 2009

مناصحة ولاة الأمور

مناصحة ولاة الأمور
بقلم د . جمال المراكبى
رأينا من قبل كيف نظمت الشريعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وجعلت أساسها قيام الحاكم نحو الرعية بما هو واجب عليه وما هو مأمور به من الحكم بشريعة الله ، والتزام منهج الشورى وإقرار العدل ، وكفالة حقوق الأفراد وحرياتهم ، وصيانتها من كل اعتداء ، وقيام الرعية بما هو واجب عليها من التزام طاعة أولى الأمر والصبر عليهم وعدم الخروج عليهم ما لم يأتوا بالكفر البواح الظاهر المعلوم بالضرورة من دين الله .
وقيام ولاة الأمور بواجباتهم حيال رعيتهم أمر من أمور الدين يثابون عليه ، ويعاقبون إن هم قصروا فى شيء منه ، وقيام الرعية بواجبها نحو ولاة الأمر من قبيل الطاعة لله تعالى ، ومن هذا المنطلق الإيماني قررت نصوص الشريعة مبدأ المناصحة وأوجبته على جميع المسلمين حكاماً ومحكومين ، فعن تميم الدارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدين النصيحة - ثلاثاً - قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله عز وجل ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) .
وقد عد بعض العلماء هذا الحديث من الأحاديث التى عليها مدار الدين كله ، وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن الدين النصيحة ، فدل على أن النصيحة تشمل الدين كله ، فتشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان . 
والنصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هى إرادة الخير للمنصوح له ، فهى كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً (2) .
ولهذا فإن رسل الله عز وجل قد قاموا بواجب النصيحة تجاه دعوتهم ، وتجاه أممهم . قال نوح عليه السلام : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " ( الأعراف : 62 ) . 
وقال هود عليه السلام : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ " ( الأعراف : 68 ) . 
وقد وردت كلمة النصيحة بصيغة المفاعلة - المناصحة - وفى ذلك إشعار بأنها واجب على كل فرد تجاه المجموع . وحق لكل فرد من المجموع أيضاً . 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم .. " الحديث (3) . 

طاعة أولى الأمر ..

طاعة أولى الأمر ..


العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، تستلزم أن يتقبل الأفراد طاعة السلطة الحاكمة فى أوامرها ونواهيها ، لأن الأصل فى هذه الأوامر والنواهي أنها بقصد تحقيق الصالح العام للجماعة والعمل على سير دولاب الحياة سيراً منتظماً . ولكن الفرد بطبعه يأنف من فكرة الخضوع لغيره كائناً من كان ويسعى للتمرد على السلطة الحاكمة إرضاءاً لنزواته وغرائزه ومن هنا ارتبطت الأوامر والنواهي – القاعدة القانونية – بجزاء مادي يوقع على المخالف ، وصار هذا الجزاء ركناً من أركان القاعدة القانونية يميزها عن القواعد الأخلاقية . 
وفى النظام الإسلامي حيث يرتبط الأمر والنهى بالإيمان بالله وعبادته ، فإن المؤمن الذى رضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وشريعة ومنهاجاً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً يجد فى نفسه وفى ضميره وفى مراقبته لله عز وجل الباعث على احترام أوامر الله تعالى ونواهيه ، فتتحقق فى نفسه تقوى الله عز وجل وثمرتها اتباع أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه ، وحتى لو غلبته الشهوة وخالف أمراً لله تعالى فإنه يسارع إلى التوبة حتى يعفو عنه ربه . 
ومن هذا المنطلق الإيماني الذى يجب أن يسود المجتمع المسلم نجد أن الجاني الذى ارتكب جريمته فى الخفاء يتقدم إلى أولى الأمر معترفاً بجرمه يسعى إلى تطهير نفسه من دنسها . 
تلك هى الطاعة فى النظام الإسلامى دين متبع ، وعمل يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، ولهذا ربط الله تعالى الطاعة بالإيمان فلم يطلبها إلا من مؤمن يسعى إليها راغباً راهباً " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا " ( النساء : 59 ) فقد أرشد الآية إلى وجوب طاعة الله فيما أمر به ونهى عنه فى كتابه ، وطاعة الرسول فيما بين ووضح وأمر فى سنته فهى نص فى وجوب شرع الله تعالى ، ثم أرشدت إلى وجوب طاعة أولى الأمر بالتبعية لطاعة الله ورسوله وليس على سبيل الاستقلال ، أى ما داموا قائمين على شرع الله منفذين له ، فإن حدث بينكم خلاف على أمر من الأمور فاحتكموا إلى كتاب الله وسنة نبيه حتى تصلوا إلى الحق إن كنتم على سبيل المؤمنين فتصيبوا الخير فى الدنيا والآخرة . 
وأولوا الأمر هم؛ الولاة والأمراء أصحاب السلطة ، وهم العلماء العاملون أيضاً ، ويرجع إليهم الناس فى أمور دينهم ودنياهم .
ولقد تواترت النصوص التى تحث على طاعة الأئمة والولاة ويكفى أن ترجع إلى كتاب الأحكام من صحيح الإمام البخارى وإلى كتاب الإمارة من صحيح الإمام مسلم لتقف على جم غفير منها : عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع الإمام فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى الإمام فقد عصاني (1).
قال الشافعى : كانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة فكانوا يمتنعون على الأمراء ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم هذا القول يحثهم على طاعة من يؤمرهم عليهم والانقياد لهم إذا بعثهم فى السرايا وإذا ولاهم البلاد فلا يخرجون عليهم لئلا تفترق الكلمة (2) وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الأئمة والولاة لما فى ذلك من اتفاق الكلمة ، لأن الافتراق سبيل الفساد ، وهذا واضح فى كثير من النصوص التى تحث على الطاعة وإن كانت شاقة على النفس ، وإن كان الأمير عبداً تأنف النفوس من الخضوع له وطاعته . " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة " (3) . 
" ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله اسمعوا له وأطيعوا " (4) . 
إن الطاعة فى النظام الإسلامى واجبة عند الكسل وكراهية الأمر كما هى واجبة عند النشاط والتحمس له ، واجبة فى العسر والشدة كما هى فى الرخاء واليسر ، واجبة فيما تكره كما هى واجبة فيما تحب ما لم تؤمر بمعصية الله " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (5) .
وعلى هذا يبايع المسلمون ، على أن تظل الطاعة هى الرابطة بين الحاكم والمحكوم حتى وإن جنح الحاكم إلى الظلم والاستئثار بالمال ما لم يصل به الأمر إلى كفر بواح ظاهر . 
عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان (6) . 
ولا يعنى هذا إقرار الظلم والسكوت عليه ، بل يجب على كل مسلم قادر أن يسعى إلى المعالجة بوسائلها المشروعة فالنصح لولاة الأمر واجب ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب ، والطاعة لا تكون إلا فى معروف ، ولهذا ورد فى حديث عبادة " وأن نقوم – نقول – بالحق حيثما كنا لا نخاف فى الحق لومة لائم " (6) .
إن طاعة ولاة الأمور ليست مطلقة ولا يمكن أن تكون كذلك فى نظام شرعى تحكمه ضوابط شرعية فأولو الأمر لا ينفردون بالطاعة فى كل ما أمروا به ، ولكن يطاعون فى الحدود الشرعية التى تحكم الحاكم والمحكوم ، فإذا ما تجاوز بعضهم هذه الحدود فلا سمع ولا طاعة روى البخاري عن علىّ قال : بعث النبى صلى الله عليه وسلم سرية وأمر عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه ، فغضب عليهم فقال : أليس قد أمر النبى صلى الله عليه وسلم أن تطيعونى ؟ قالوا : بلى . قال : قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبا وأوقدتم ناراً ثم دخلتم فيها ، فجمعوا حطباً فأوقدوا ناراً ، فلما هموا بالدخول فقاموا ينظر بعضهم إلى بعض ، فقال بعضهم : إنما تبعنا النبى صلى الله عليه وسلم فراراٍ من النار ، أفندخلها ؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً ، إنما الطاعة فى المعروف " (7) .
وقد كانت هذه القصة سبباً فى نزول قوله تعالى : " أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ " (8) الآية . 
وروى مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع " . 
فقال له عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا ، والله يقول : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " الآية ( النساء : 29) فسكت عبد الله ساعة ثم قال : أطعه فى طاعة الله ، واعصه فى معصية الله (9) فهذه فتوى عامة لكل من أمره أميره بمعصية الله كائناً من كان ولا تخصيص فيها البتة . 
وأهل السنة والجماعة متفقون على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور ما لم يأمروا بمعصية الله .
قال ابن تيمية : وكذلك وجوب طاعته – أى الإمام – فى كل ما يأمر به وإن كان معصية الله ، ليس هو اعتقاد أحد من المسلمين ، ولكن مذهب أهل السنة والجماعة أن هؤلاء يُشاركون فيما يحتاج إليهم فيه من طاعة الله ، فنصلى خلفهم الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات التى يقيمونها هم ، لأنها لو لم تُصل خلفهم أفضى إلى تعطيلها ، ونجاهد معهم الكفار ، ونحج معهم البيت العتيق ويُستعان بهم فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة الحدود فإن الإنسان لو قُدر أن يحج فى رفقة لهم ذنوب ، وقد جاءوا يحجون لم يضره هذا شيئاً ، وكذلك الغزو وغيره من الأعمال الصالحة إذا فعلها البر وشاركه فى ذلك الفاجر ، فكيف إذا لم يكن فعلها إلا على هذا الوجه . ويستعان بهم فى العدل فى الحكم والقسم فإنه لا يمكن عاقلاً أن ينازع فى أنهم كثيراً ما يعدلون فى حكمهم وقسمهم ، ويعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان . أهـ (10) . 
هذا هو منهج القصد والاعتدال ، منهج أهل السنة والجماعة بخلاف منهج الخوارج الذين يخرجون على المسلمين بأدنى ذنب ومنهج المرجئة الذين يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ، ومن تتبع تاريخ المسلمين يجد منهج أهل السنة والجماعة ظاهراً بارزاً تعبر عنه أقلامهم ، وتبرزه مواقفهم . مر أبو برزة الأسلمى على أبى بكر الصديق فوجده يتغيظ على رجل من أصحابه ، فقال له : يا خليفة رسول الله من هذا الذى تتغيظ عليه ؟ قال : فلم تسأل عنه ؟ قال : لأضرب عنقه . 
قال أبو بكر : لو قلت لك ذلك أكنت تفعله ؟ قال : نعم ، قال أبو بكر : ما كان ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (11) . قال البغوى : فهذا يؤيد ما قلنا وهو أن أحداً لا يجب طاعته فى قتل مسلم إلا بعد أن يعلم أنه حق ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يأمر إلا بحق ولا يحكم إلا بعدل . 
وحُكى أن عمر بن هبيرة كان والياً على العراق ، فقال لعدة من الفقهاء : إن أمير المؤمنين يكتب إلىّ فى أمور أعمل بها فما ترون ؟ فقال له بعضهم : أنت مأمور والتبعة على من أمرك فقال للحسن البصرى : ما تقول ؟ قال : اتق الله يا عمر ، فكأنك بملك قد أتاك فأنزلك عن سريرك هذا ، فأخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ، فإياك أن تعرض لله بالمعاصي ، فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق (12) .
فهذان مثالان أسوقهما إلى عبيد السلطان فى كل موقع ، الذين يهملون واجب النصيحة ، ويفهمون الطاعة على غير وجهها فيقول قائلهم : ( أنا عبد المأمور ) !! وينسى أنه عبد الله وحده ، ويظن بذلك أن التبعية تقع على غيره بينما هو شريك فى الإثم والعدوان ، والله تبارك وتعالى يقول : " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " ( المائدة : 2) .
 
وكتبه : د. جمال المراكبى

 الهوامش :

(1) البغوى – شرح السنة ج10 ص41 ، والحديث متفق عليه ولكن بلفظ : أميري عند البخارى – ك الأحكام وبلفظ : الأمير عند مسلم – ك الإمارة .

(2) حكاه الحافظ ابن حجر فى فتح البارى عند شرحه لألفاظ الحديث ج13 ص120 .

(3) أخرجه البخارى ( 693 ، 696 ، 7142 ) عن أنس ، وعند مسلم ( 1837/36 ) من حديث أبى ذر نحوه .

(4) أخرجه مسلم وأحمد ( 4/69 – 70 ) عن أم الحصين .

(5) البخارى ك الأحكام ح رقم 7144 ، ومسلم ك الإمارة ح 1839 ، عن ابن عمر .

(6) مسلم ك الإمارة 1709 – 41 .

(7) متفق عليه .

(8) متفق عليه عن ابن عباس .

(9) مسلم ك الإمارة ح رقم 1844 .

(10) منهاج السنة النبوية ج2 ص 240 .

(11) صحيح . أخرجه النسائى ( 7/108 ، 109 ) ، وأحمد ( رقم 54 ) ، والمروزى فى مسند أبى بكر ( 66 – 68 ) .

(12) البغوى – شرح السنة ج 10 ص 45 .

الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

تابع أسس ودعائم الحكم فى الدولة الإسلامية - ثالثاً : الشورى

تابع أسس ودعائم الحكم فى الدولة الإسلامية

ثالثاً : الشورى
الشورى أساس متين من أسس الحكم فى دولة الإسلام أرشدنا القرآن إليها ، وأمر بها وأوجبها وجعلها سمة لجماعة المؤمنين ، ومنهج حياة " لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُـمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ " ( الشورى : 36 – 39 ) .
وحين خرج النبى صلى الله عليه وسلم من المدينة للقاء المشركين فى غزوة أحد ، وذلك بناءً على مشورة أكثر أصحابه ، ثم كانت الهزيمة ، ونزلت آيات القرآن بإيجاب المشاورة حتى لا يظن البعض أنها كانت من أسباب الهزيمة ، فيكون ذلك ذريعة لنبذها " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " ( آل عمران 159 ) .
وقد حفلت السنة النبوية بكثير من النصوص التى تحث على التزام منهج الشورى قولاً وعملاً على كل المستويات وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل فى ذلك حتى ليقول عنه بعض أصحابه : (1) ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى .
فالشورى ضرورة من ضرورات الحياة لا يستغنى عنها مسلم ولا يبخل بها مسلم ، فالمستشار مؤتمن لا بفضى لأخيه سراً ، ولكن يدله على سبيل الرشد " إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه " (2) . 
" من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشد فقد خانه " (3) .
والشورى بركة ، فما شقى قط عبدٌ بمشورة ، وما سعد باستغناء رأى ، وما خاب من استخار ولا ندم من استشار . 
والمرأة تستشار ، وقد أشارت السيدة أم سلمة على النبى صلى الله عليه وسلم فى صلح الحديبية (4) ، وأهم ما تستشار فيه المرأة أمر زواجها ، فالبكر تستأمر والثيب تشاور (5) . 
و لا يجوز أن يولى على المسلمين والٍ أو يستخلف خليفة بغير مشورة ، وفى الحديث " لو كنت مؤمراً " – وفى رواية – مستخلفاً أحداً من غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد " (6) . 
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع المشاورة فى أمره كله ، وكان يكثر أن يقول : " أشيروا علىّ أيها الناس واستشار أصحابه فى بدر قبل القتال " ، وشاورهم فى مصير الأسرى ، واستشارهم قبل الخروج فى غزوة الخندق ، وشاور علياً وأسامة فى حادثة الإفك ، ولو تتبعنا حوادث الشورى فى عصره لطال بنا المقام . 
وقد اتسع مجال العمل بالشورى فى عهد الخلفاء الراشدين وذلك لظهور حوادث لم تكن تعرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اختيار خليفة المسلمين وحاكمهم .
ومن المأثور عندهم فى ذلك " من بايع رجلاً من غير مشورة المسلمين فلا يتابع ولا الذى بايعه تغرة أن يقتلا " (7) . 
وكذلك لجأ الراشدون إلى أسلوب المشاورة فى استنباط الأحكام الشرعية والاجتهاد فى الأقضية ، فكان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر فى كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى به قضى بينهم ، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به ، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة ، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم (8)
وبمثل ذلك كان يفعل عمر بن الخطاب . 
ثم كانت الشورى سبيلهم فى كل ما جد من الأمور ، ولو استقصينا ذلك لطال بنا المقام جداً . 

حكم الشورى :-
اختلف أهل العلم قديماً فى ذلك فمنهم من قال : الشورى مندوبة ، فما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشاورة من الفضل ، ولتقتدى به أمته من بعده . 
ومنهم من قال : الشورى واجبة لأن الله تعالى أمر بها نبيه والأصل فى الأمر أنه للوجوب ما لم تصرفه عن الوجوب قرينة وهو عام فى جميع الأمة ما لم يثبت خصوصية النبى صلى الله عليه وسلم به وليس أدل على وجوب الشورى من التزام النبى صلى الله عليه وسلم منهج المشاورة وهو المعصوم بوحى السماء ، وكذلك التزام الخلفاء الراشدين لهذا المنهج واجب الاتباع لقول النبى " فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى " (9) 
بل إن الذين ذهبوا إلى استحباب المشاورة ربطوا الأمر بشخص النبى صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم بالوحى ، ولكن غيره من الخلفاء والأمراء لا يملكون مثل هذه العصمة فوجب عليهم أن يعتصموا بمنهج الشورى . 
وهذا هو الذى يرجحه أكثر المتأخرين ، لأن النصوص تدل عليه دلالة صريحة ، ومنهج النبى صلى الله عليه وسلم ومنهج خلفائه من بعده تجعل الشورى أصلاً وأساساً متيناً للحكم فى الدولة الإسلامية .

موضوع الشورى وحدودها :- 
وهى الدائرة التى يباشر فيها أهل الشورى اختصاصهم ولقد حاول البعض التضييق من مجال الشورى فزعموا أن الشورى لا تكون إلا فى الحروب لأن اللام فى لفظة " الأمر " ليست للإستغراق لخروج ما نزل فيه الوحى باتفاق ، وليس ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب فى غزوة أحد . 
والراجح أن الشورى تكون فى كل الأمور التى لم ينزل فيها وحى من السماء ، لأن لفظ " الأمر " لفظ عام خُص بما نزل فيه وحى ، فيبقى حجة فى الباقى . 
إن وقائع الشورى فى صدر الإسلام لم تكن قاصرة على أمور الحرب ، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يستشير فى أمور عامة كثيرة كتعيين الولاة ، بل كان يستشير فى أمور عامة كثيرة كتعيين الولاة ، بل كان يستشير فى بعض الأمور الخاصة كما استشار علياً وأسامة فى حادثة الإفك . 
وكذلك لجأ الراشدون إلى أسلوب الشورى فى الكثير من الوقائع التى تتعلق بمصالح الأمة كجمع القرآن وتدوين الدواوين . 
وتجارب الشورى تبين بوضوح أن الصحابة قد فهموا أن الشورى لا تكون إلا فى الأمور التى لم ينزل فيها وحى من السماء لأن ما كان فيه نص قاطع فلا مجال للرأى فيه لوجوب طاعة الله ورسوله " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا " ( الأحزاب 36 ) .
أما ما نزل فيه وحى السماء ولم يكن قاطعاً فى دلالته فهو محل للإجتهاد والاستنباط ، ولهذا فإنه يدخل فى مجال الشورى من هذه الناحية ، وقد حدث هذا فى عصـر النبوة حين نزل قـول الله تعالـى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً " ( المجادلة 12 ) . 
فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب : ما ترى ؟ دينار ؟ قال : لا يطيقونه ، قال : فنصف دينار ؟ قال : لا يطيقونه ، قال : فكم ؟ قال : شعيرة ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : إنك لزهيد ، فنزلت " ءَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ " ( المجادلة 13 ) .
قال على : فبى خفف الله عن هذه الأمة (10) .
قال ابن حجر : ففى هذا الحديث المشاورة فى بعض الأحكام . 
وفى هذا بيان أن الشورى تجوز فى الأحكام الظنية وفى كل ما يجوز فيه الاجتهاد ، وهذا تخصيص للقول بأنها لا تكون فى المنصوص عليه من الأحكام .  

أهل الشورى :- 
لم تبين لنا النصوص من هم أهل الشورى ولا صفاتهم ولا عددهم ، وجاءت السوابق التاريخية واسعة فضفاضة . فتارة يكون المستشار وحداً بعينه منتدباً أو متطوعاً ، وتارة يكون أهل الشورى عدد غير محصور وقد يكونون جماهير المسلمين ، وقد يكون أهل الشورى جماعة منتحبة تمثل المسلمين وهم الذين يطلق عليهم النقباء أو العرفاء ، وقد يكون المستشار رجلاً أو امرأة ، أو يكون شاباً أو كهلاً ، وقد كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً (11) .
ونتيجة لهذه المرونة فى تشريع الإسلام للشورى اختلف أهل العلم فى تحديد أهل الشورى وتحديد صفاتهم كماً وكيفاً فذهب البعض إلى أنهم أهل الحل والعقد وإن اختلفوا فى تحديد هذه الفئة ، وذهب البعض إلى أنهم جميع أبناء الأمة ولكن لاستحالة جمعهم يختار من بينهم من يمثلهم لأداء هذه المهمة . 
والذى ينبغى أن نقرره أن الشورى فى منهاج الإسلام تتسع لكل فكرة وكل نظام يحقق المشاورة عملاً ، فمن الجائز أن تقوم الأمة باختيار أهل الشورى على أن يشترط فى المرشح أن يكون أهلاً لهذه المكانة ، ويجوز لولى الأمر أن يشاور أهل الاختصاص ويجوز أن تعرض بعض المسائل على الأمة جميعها أو غير ذلك .

د/ جمال المراكبى

تابع أسس ودعائم الحكم في الدولة الإسلامية - ثانياً : كفالة الحقوق والحريات

تابع أسس ودعائم الحكم في الدولة الإسلامية

ثانيا : كفالة الحقوق والحريات
وإذا كانت الأنظمة المتقدمة في عالم اليوم قد اهتمت بهذا الأساس ، بدءاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وانتهاءً بإنشاء المنظمات ، بل والمحاكم التي تعنى بحقوق الإنسان ، فإن الشريعة الإسلامية ومنذ أربعة عشر قرناً ، قد بلغت فى ذلك إلى الحد الذي اعتبرت معه هذه الحقوق بمثابة ضرورات وواجبات لا ينبغي التفريط فيها بحال . 
وإذا كانت دول العالم الثالث ، ومنها بلاد المسلمين تعانى من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان ، فإن ذلك يرجع إلى بعد هذه البلاد عن التطبيق الأمثل لشريعة الله   

(1) المساواة :  
لقد قررت الشريعة الإسلامية المساواة بين بنى الإنسان ، فلم تعترف بفروق مصطنعة على أساس الجنس أو اللون أو اللغة فالناس فى أصل الخلقة سواء " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً " . ( النساء : 1 ) . 
إن الأساس الذى يتفاضل به الناس عند خالقهم هو التقوى وهو أمر قلبى لا يعرف حقيقته إلا رب العالمين " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " . ( الحجرات : 13 ) . 
وفى حجة الوداع يقول النبى صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربى فضل على عجمى ، ولا لعجمى فضل على عربى ، ولا لأحمر فضل على أبيض ، ولا لأبيض فضل على أحمر إلا بالتقوى . ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد " (1) .
ويربى الإسلام فى الإنسان هذا المبدأ وينميه ، ويحوله إلى واقع عملى ، ففى الصلاة يصطف الناس خلف إمامهم بلا تمايز ، وفى الصوم يمتنع الجميع عن الطعام والشراب طوال النهار ، ويجتمعون عليه فى وقت واحد ، وفى الحج يلتقى المسلمون وقد نزعوا ثيابهم وزينتهم ، ولبسوا جميعاً ثياباً أشبه ما تكون بأكفان الموتى ، فلا تمايز بينهم وكلهم فى هذا الموقف سواء. · 

المساواة أمام القانون :- 
 والمساواة أمام أحكام الشريعة أصل من أصول الإسلام يتساوى فيه الحاكم والمحكوم ، والشريف والوضيع . والنبى صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (2) .
وتسوى الشريعة بين الولاة والرعية ، وقد كان عمر يحذر ولاته من أن تأخذهم نشوة السلطة فتنسيهم هذا الأصل وكان يخطب الناس فيقول : أيها الناس إنى لم أبعث عمالى عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم ، وليقسموا فيئكم بينكم ، فمن فُعل به غير ذلك فليقم ، من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علىّ ، ليرفعها إلىّ حتى أقصه منه ، فيقول أحد الولاة : أرأيت إن أدب أميرٌ رجلاً من رعيته ، أتقصه منه ؟ فيقول عمر : وما لى لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه (3) . 
· المساواة أمام القضاء :- 
والمساواة أمام القضاء من المظاهر التى لم تعرفها كثير من دول العالم على النحو الذى عرفه المسلمون الأوائل حين التزموا شريعة الله ، وقد تخاصم أمير المؤمنين علىّ مع رجل من أهل الذمة إلى شريح القاضى ، فقضى للذمى على أمير المؤمنين ، وهذا فى زمن فتنة وحرب أهلية تبيح للحاكم فرض حالة الطوارئ وقوانين الضرورة فى أرقى دول العالم اليوم (4) .
 
· المساواة بين المسلم والذمى :- 
وتقرر الشريعة الإسلامية المساواة بين المسلم والذمى إلا فيما يتعلق بأمر العقيدة والعبادة . 
قال على بن أبى طالب : إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ، ودماؤهم كدمائنا .
والأصل الفقهى أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا . 

· المساواة بين الرجل والمرأة :- 
وتسوى الشريعة بين الرجل والمرأة ، ولكنها لا تغفل أن لكل منهما دوره ووظيفته ، فالمرأة مكلفة بكل أركان الإيمان والإسلام ، وبكل أحكام الشرع وآدابه وأخلاقه إلا ما استثنى كترك الصلاة والصوم حال الحيض ، وعدم وجوب الجهاد على المرأة ، وكذلك أحكام العدة والنفقة وغير ذلك . 
والنظام الإسلامى يجعل للمرأة وظيفتها كما أن للرجل وظيفته ولكن الوظيفة الرئيسية للمرأة تتعلق ببيتها وأولادها ، وليس معنى هذا أن عمل المرأة خارج البيت حرام ، فللمرأة أن تعمل بشرط مراعاة الآداب والأخلاق والضوابط الشرعية فى تعاملها مع غير محارمها ، وليس العمل خارج البيت بضرورة بالنسبة للمرأة لما لها من حق النفقة والكفالة على الرجل ، ولما يؤدى من نتائج سلبية سيئة تنعكس على الأسرة وعلى المجتمع . 
والإسلام يصون المرأة عن كل ما يؤذيها ويشينها ، ولهذا فقد منع النبى صلى الله عليه وسلم المرأة من كل عمل يؤدى إلى تبذلها وينافى ما يجب لها من صيانة وستر ، فقال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (5) . 
وأجمع أهل العلم على أن المرأة لا تلى منصب الخلافة والرئاسة وذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز توليها القضاء . 

(2) العدالة :- 
 والعدالة من الأسس التى عليها عمار الكون وصلاح العباد ، لذا حث عليها الإسلام فى شتى المواطن حتى مع العدو ، وفى زمن الفتنة " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ " ( النساء : 58 ) . 
" فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا " ( الحجرات : 9 ) . 
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " ( المائدة : 8 ) . 
والنبى صلى الله عليه وسلم يرسى دعائم العدل قولاً وعملاً " والمقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، هم الذين يعدلون فى حكمهم وأهلهم وما ولوا " (6) . 
" وإن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل " ( 7 ) . 
وحين دخل عبد الله بن رواحة على يهود خيبر ليخرص عليهم ثمارهم ، عرضوا عليه الرشوة ، فقال لهم : لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلىّ ، ولأنتم أبغض إلىّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملنى حبى إياه وبغضى لكم على أن لا أعدل فيكم . 
قالوا : بهذا قامت السماوات والأرض . (8) .
وتقوم فلسفة الإسلام على أن فساد الرعية لا ينصلح إلا بالعدل ، وشريعة الله تعالى هى العدل المطلق ، والإمام العادل هو الذى يتبع أمر الله تعالى بوضع كل شىء فى موضعه من غير إفراط ولا تفريط . 
شكى بعض الولاة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز سوء حال رعيته ، وسأله : آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة ، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة ؟ فكتب إليه عمر : خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله . 
يقول الوالى : ففعلت ، فصارت من أصلح البلاد وأقلها سرقة (9) .
والعدالة فى الإسلام تعم العدل الاجتماعى والتكافل الاجتماعى ولهذا جعل الله تعالى فريضة الزكاة حقاً للفقراء ولبنة فى بناء العدل الاجتماعى ، حتى أن النبى صلى الله عليه وسلم يجعل بيت المال – خزانة الدولة – وارثاً لمن لا وارث له وعائلاً لكل فقير أو ضعيف . 
" من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ضياعاً فإلىّ وعلىّ " (10) حتى إن بيت المال ليقوم بسداد ديون المدينين ، وتجهيز الفنادق لاستضافة المسافرين فى عهد عمر بن عبد العزيز (11) . 

(3) كفالة الحقوق والحريات :- 
قال تعالى : " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ " ( الإسراء : 70 ) ولاشك أن الحرية والمساواة هى أعظم تكريم لهذا الإنسان ولقد جعل الله تعالى حرية الإرادة مناطاً للتكليف ، فمن سُلبت إرادته سقط عنه التكليف وأصبح عالة على غيره . 
وقد كفل الشرع للإنسان حريته كاملة ولكنه ضبطها بمجموعة من الضوابط حتى لا تصطدم حريات الأفراد بعضهم ببعض ، ولا يطغى بعضهم على بعض ويستعبد بعضهم بعضاً وحتى لا يسير الإنسان وراء شهواته ونزواته فتنحط ذاته ويفقد أساس كرامته وتفضيله على سائر المخلوقات . 
الحرية ال..... :- 
وهى كون الشخص أهلاً لإبرام العقود والتصرفات ، وهى ما تعرف بالأهلية ، أهلية الوجوب وأهلية الأداء . 
أما أهلية الوجوب وهى التى تجعل الشخص صالحاً للتملك فقد قررها الشرع لكل إنسان بغير قيد ، حتى الجنين فى بطن أمه جعل له نوعاً من هذه الأهلية . 
أما أهلية الأداء ، وهى كون الشخص أهلاً للتصرف فى ماله فهى مكفولة لكل أحد ، إلا من ساء تصرفه فكان وبالاً على نفسه وعلى المجتمع كالسفية والمجنون فقد قرر الشرع ضوابط لحمايته " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا .. " الآية ( النساء : 5 ) . 
ولا يفرق الشرع بين الناس على أساس الدين أو الجنس ، بل المسلم وغيره سواء ، والرجل والمرأة فى ذلك سواء . 

الحرية الدينية :- 
يكفل الشرع الإسلامى حرية الاعتقاد " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " ( البقرة : 256 ) " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " . ( يونس : 99 ) .
فالإسلام لا يعرف الإكراه ولا يعترف به ، بل يرفع معه التكليف ، والدعوة إلى الله لا تكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة . 
ولكن حين يقوم كبراء الناس ليصدوا عن سبيل الله ويمنعوا من وصول الدعوة إلى غيرهم فهنا يتعين على المسلمين جهادهم " فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ " ( التوبة : 12 ) .
لقد راسل النبى صلى الله عليه وسلم الملوك ودعاهم إلى الإسلام فلم يستجب أكثرهم ، أما من استجاب منهم فلم يطلب منه أن يجبر الناس على دخول الإسلام ، بل كل المطلوب منه أن يتحرك الإسلام كعقيدة يتحاور مع غيره من العقائد ، والغلبة دائماً للحق ، وأما من أعرض وأبى فلم يقاتل إلا حين منع الدعوة وصد عن سبيل الله . 
وبهذا الفهم نجد أن المسلمين الأوائل لم يفكروا فى لحظة أن يفتحوا بلاد الحبشة كما فتحوا بلاد الفرس والروم رغم أن سكان الحبشة لم يدخلوا جميعاً فى الإسلام ، وكذلك اليمن ، وذلك لأن طريق الدعوة مفتوح ، ولهذا كانت وصية النبى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن " إنك تأتى قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً فإن هم أطاعوا لذلك . 
وفى رواية – فإذا عرفوا الله – فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات .. الحديث (12) . 
ودلالة الحديث واضحة ، فإن هم أطاعوا ، أما إذا لم يطيعوا فالأصل الثابت " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " . 
ولو كان الإكراه جائزا أو معمولاً به ، لما وجدنا لغير المسلمين وجود فى بلاد المسلمين ، فالواقع خير شاهد على نفى الإكراه وقد كان لعمر بن الخطاب غلاماً نصرانياً ، فكان عمر يعرض عليه الإسلام فيأبى ، فيقول عمر " لا إكراه فى الدين " . وليس معنى الحرية هنا أن يتمرد المسلم على دينه وشريعته ولهذا جعل الإسلام للارتداد حداً شرعياً " من بدل دينه فاقتلوه " (13) . 

الحرية الفكرية :- 
الإسلام دين يحترم العقل ويدعو إلى التأمل والتدبر ، ويحذر من عاقبة التقليد الأعمى . 
" أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ " ( ق : 6 ) . 
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " ( البقرة : 170 ) . 
وحرية الفكر مكفولة ما لم تتصادم مع نصوص الشرع ، لأن فى ذلك تطاول عقلى وقول على الله بغير علم . " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " ( الإسراء : 36 ) . 
وفى المناظرات الفقهية التى تزخر بها كتب الفقه والتاريخ خير شاهد على مدى تمتع الأفراد بحرية الفكر والرأى والتعبير ، وإذا كانت بعض فترات التاريخ الإسلامى لا تشهد لذلك ، فالعيب ليس فى شريعة الله بل فى بعد المسلمين عن هذه الشريعة . 
أما عن الحرية السياسية وحق الفرد فى المشاركة فى الأمور العامة فسوف نتناوله تفصيلاً فى الحديث عن الشورى والمناصحة . 
وإلى لقاء آخر .

الهوامش :
-------------
(1) أحمد 5/441 – ورجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد ج3 ص 269 صحيح . 
(2) البخارى – كتاب الحدود – حديث رقم 6787 . 
(3) ابن سعد – الطبقات الكبرى – المجلد الثالث – القسم الأول ص 201 وإسناده صحيح .
(4) البداية والنهاية ج8 ص5 – وتاريخ الخلفاء ص 172 .
(5) البخارى ك المغازى ح رقم 4425 ، وشرح السنة ج10 ص 76-77 . 
(6) مسلم ك الإمارة ح رقم 1827 ، شرح السنة ج10 ص 63 .
(7) ضعيف : الترمذى ك الأحكام 1329 وشرح السنة ج10 ص 65 وفى سنده عطية العوفى وهو ضعيف .
(8) أبو داود ح رقم 3410 . وابن ماجه ح رقم 1820 ، وإسناده حسن .
(9) السيوطى – تاريخ الخلفاء ص 221 . 
(10) متفق عليه .
(11) تاريخ الرسل والملوك للطبرى ج6 ص 567 .
(12) متفق عليه .
(13) متفق عليه .
بقلم د/ جمال المراكبى

السبت، 25 يوليو 2009

أسس ودعائم الحكم فى الدولة الإسلامية

أسس ودعائم الحكم فى الدولة الإسلامية
بقلم د/ جمال المراكبى
أولاً : الشرعية
نظام الحكم فى الدولة الإسلامية تحكمه ضوابط وقيود شرعية ، ولا يمكن بحال أن نتصور أنه متروك لأهواء الحاكم وبطانته ، يحكمون بما تمليه عليهم أهواؤهم ومصالحهم ، ثم يضفون على هذه الأهواء الصبغة الدينية ويتحكمون فى رقاب الناس باسم الدين ، كما يظنه بعض من يجهلون حقيقة هذا النظام .
إنه نظام شرعى ، محكوم بشرع الله تعالى وحاكم به ، قال تعالى : " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " ( البقرة : 256 ) . 
والطاغوت هو كل معبود متبوع مطاوع من دون الله تعالى . 
وقد نهى القرآن الكريم عن عبادة الأشخاص وإن كانوا علماء الدين ، وعن متابعة الأهواء والأغراض مع الإعراض عن شرع الله تعالى ، فنعى على أقوام " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ " ( التوبة : 31 ) يحلون لهم الحرام ، ويحرمون عليهم الحلال فيطيعونهم . 
ونعى على آخرين اتباع الأهواء " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ " . ( الجاثية : 23 ) . 
ولهذا قال الله تعالى لنبيه : " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" ( المائدة : 49 ) .
فالحكم بشريعة الله هو الأساس المتين والقاعدة الراسخة التى يقوم عليها نظام الحكم فى الإسلام .
وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم على التمسك بأهداب الشرع من بعده " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى كتاب الله وسنتى " (1) .
ونحن نعلم يقيناً أن محمداً هو خاتم الأنبياء المبعوث للناس كافة ، وأن شريعته خاتمة الشرائع يصلح الله بها فساد كل زمان ومكان ، ونعلم بالضرورة أن نصوص الشرع محدودة متناهية ، وحوادث الزمان المتجددة غير متناهية ولهذا قررت الشريعة مبدأ الاجتهاد ، والاجتهاد فى فهم نصوص الشرع وتطبيعها ، لا الاجتهاد فى نبذها والإعراض عنها ، فليس هناك اجتهاد مع النص . 
ويؤدى الاجتهاد بضوابطه إلى تطور الفقه الإسلامى وخصوبته ومرونته . 
ومن هنا فإن الشريعة تعطى الحق للمجتهدين وأولى الأمر في التشريع ، ويكون التشريع محكوماً بضوابط . 
أولها : ألا يخالف شرع الله الثابت نصاً أو روحاً وإلا وقع التشريع باطلاً . 
الثانى : أن يكون مبنياً على تحقيق مصالح الناس ودفع الضرر عنهم . وتمتد هذه التشريعات لتشمل التشريعات واللوائح التنظيمية والتنفيذية ، بل والتشريعات المستقلة فيما لا نص فيه ، وهو ما يعرفه الأصوليون بـ " حق أولى الأمر فى تقييد المباح " وعليه أمثلة كثيرة فى السوابق التاريخية فى عهد الراشدين منها :- جمع الناس على مصحف واحد لنبذ الفرقة والاختلاف فى عهد عثمان . ­
منع عمر الصحابة من الزواج بنساء أهل الكتاب بعد انتشار الفتوح لمنع الضرر بالمسلمات .
­إن الشرعية الإسلامية تحتكم إلى شريعة ربانية من حيث مصدرها وغايتها ووجهتها ، ومن ثم فهى معصومة من التناقض والتطرف والاختلاف الذى يصيب تشريعات البشر . 
وتمتاز هذه الشريعة بالوسطية ، لذا كانت الأمة الوسط هى التى تقيم الشريعة الوسط ، فتتأهل بها إلى منزلة الشهادة على الأمم يوم القيامة " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " . 

------------------- 
(1) صحيح . رواه مالك فى الموطأ معضلاً ، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الحاكم ، ومن حديث أبى هريرة ، وانظر المشكاة ( رقم 186 ) ، والصحيحة .

الجمعة، 24 يوليو 2009

الدولة الإسلامية والمدنية 2

الدولة الإسلامية والمدنية
(الحلقة الثانية )
بقلم د/ جمال المراكبى
1- الإسلام دين ودولة حقيقة لا شك فيها ، ومن يدعى غير ذلك فإنما يخبط فى عماية خبط عشواء . 
وكثيراً ما قالوا : إننا لا نعترف بالإسلام كدولة لأننا لا نريد دولة دينية تتحكم فى رقاب العباد استناداً إلى فكرة الحق الإلهى المقدس ، بل نريد دولة مدنية نملك فيها مساءلة الحاكم ومحاسبته وتغييره إن أساء فما مدى صحة هذا الكلام ، وهل السلطة فى دولة الإسلام دينية أم مدنية . 
2- إن اصطلاح الدولة الدينية عند أغلب المعاصرين اصطلاح غربى مأخوذ عن الاصطلاح الفرنسى المشهور " الدولة الثيوقراطية "
والترجمة المعتبرة لهذا الاصطلاح هى " الدولة التى ينسب مصدر السلطة فيها إلى الله " بمعنى أن يدعى حاكم أنه هو الله ، كما كان فى مصر القديمة ، وفى اليابان حتى أواسط هذا القرن ، أو يدعى الحاكم أنه ينوب عن الله إما بتفويض مباشر أو غير مباشر . 
وفى مثل هذه الدولة لا يسأل الحاكم عما يفعل ، لأن إرادته وحكمه إنما هو تعبير عن إرادة الله وحكمه . 
3- وواضح هنا أنه لا علاقة لهذه الدولة بالدين الصحيح المنزل لهداية الناس ، وإنما ترتبط هذه النظرية بالمعتقدات الفاسدة والوثنيات القديمة ، حتى ولو كان رجال الدين المسيحى قد أقروها فى العصور الوسطى . 
وهنا ينبغى أن نتساءل : 4- هل الدولة الإسلامية دولة ثيوقراطية ؟ هل الحاكم فى الدولة الإسلامية يحكم بوصفه إلهاً ، أو بتفويض من الله ؟ إن مؤسس هذه الدولة كان نبياً رسولاً يأتيه الوحى من السماء ، ومع ذلك فهو حريص على إبراز حقيقة هامة " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ " ( فصلت : 6 ) إنه بشر يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ، وكونه يتلقى وحى السماء لا يعنى أن إرادته وحكمه هى القانون الذى لا يرد ، وإنما يعنى أنه فقط مبلغ عن الله . 
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فيما لا نص فيه وكان يصيب ويخطئ ، فينزل الوحى مؤيداً أو معقباً ومصححاً . 
بل كان يسارع إلى الرجوع إلى الحق ، حتى أنه يعترف بالخبرات الإنسانية فيقول " أنتم أعلم بأمور دنياكم " (1) . 
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطبق القانون على نفسه ويلتزم به لأنه أعلم الناس بربه ، وأشدهم له خشية . فيعرض بدنه للقصاص ، ويعرض أهله للقصاص ويقول : " والذى نفسى بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (2) . 
وبعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحى ، صارت شريعة الله الخالدة هى الحكم ، تحكم بين الناس حكاماً ومحكومين ولم تحدد الشريعة طريقاً معيناً لاختيار الحاكم ، وإنما تركت ذلك لجماعة المسلمين ، فهى التى تختار الحاكم وهى التى تراقبه وتحاسبه إن جار . 
ومن ثم ظن البعض أن السلطة فى الدولة الإسلامية سلطة مدنية زمنية ، ورتبوا على ذلك نتيجة هامة وهى أن الأمة هى مصدر السلطات فى الدولة الإسلامية لأن الحاكم ينوب عنها ويحكم باسمها .
5- والحقيقة أن محاولة تطبيق النظريات والمصطلحات الغربية على الدولة الإسلامية ينشأ عنه خلل فى الفهم والتصور ، وخلل فى الحكم والنتيجة . 
فالذين يرفضون تطبيق الشريعة يقولون لا نريدها دولة دينية ثيوقراطية ، فيرد عليهم البعض بأن السلطة فى الدولة الإسلامية مدنية وليست دينية ، فيرون عليهم من مقالتهم : وطالما أنها مدنية فالشعب هو الذى يحكم ويقرر فكيف تلزمونه بأحكام وتشريعات وحدود مضى عليها أكثر من ألف عام ؟!!
6-والحقيقة أن الدولة الإسلامية هى الدولة المسلمة التى تدين بالإسلام وبه تحكم وإليه تدعو ، فهى دولة دينية وليست ثيوقراطية تحكم وفق نظرية الحق الإلهى ، وإنما تدين دين الحق " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ " . 
وهى دولة عقدية نشأت بناء على تعاقد حقيقى تم بين مجموع أفرادها وبين قائدها ومؤسسها كما بينا فى المرة السابقة وتطور هذا التعاقد فأخذ صورة البيعة ، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يحرص على مبايعة كل عضو جديد يشارك فى بناء الدولة وتطورت البيعة فصارت أصلاً فى نقل وتداول السلطة فى الدولة الإسلامية بصورة قريبة من صورة الانتخاب فى العصر الحديث . 
وهى دولة شرعية يخضع فيها الحاكم والمحكوم لأحكام الشرع ويترتب على ذلك نتائج هامة ربما نفصلها فيما بعد منها على سبيل المثال : 
(1) وجوب التزام منهج الشورى . 
(2) إرساء دعائم الحق والعدل والمساواة وكفالة الحقوق والحريات التى كفلتها شريعة الإسلام . 
(3) وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر فى غير معصية الله . 
(4) التزام منهج المناصحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الإطار المحدد شرعاً. 
وأخيراً فهى دولة عقائدية تقوم على أساس عقائدى هو توحيد الله عز وجل والتزام شريعته . 
إن الدولة الإسلامية لا تسعى إلى مجرد تحقيق رفاهية الفرد والمجتمع فحسب بل تسعى إلى تحقيق سعادة الإنسان فى الدنيا والآخرة . وعلى الله قصد السبيل ، وهو المستعان .

الهوامش :
-----------------------------
(1) أخرجه مسلم – ك الفضائل – ب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأى – حديث رقم 2363 . 
(2) متفق عليه .

الخميس، 23 يوليو 2009

الدولة الإسلامية والدينية والمدنية !

الدولة الإسلامية والدينية والمدنية !
بقلم د/ جمال المراكبى

******
 
الإسلام دين ودولة :

منذ تفككت الدولة العثمانية – دولة الخلافة الإسلامية – فى أوائل هذا القرن تحت وطأة النفوذ الاستعمارى الغربى ، وتمكن الغزو الفكرى الاستعمارى من السيطرة على كثير من رجال الفكر والثقافة فى بلاد المسلمين ، ثار الجدال حول طبيعة الدولة فى الإسلام ، هل هى دولة دينية أم هى دولة مدنية . وقد بلغ هذا الجدل ذروته حين خرج الشيخ على عبد الرازق على الناس بكتابه " الإسلام وأصول الحكم " وزعم فيه أن الإسلام دين ورسالة سامية ، لا علاقة له بالحكم والسياسة وقد ارتفعت أصوات العلماء بالإنكار على هذه المقولة وقائلها ، وتفنيد الشبهات التى أثارها فى هذا الشأن وقامت هيئة كبار العلماء فى هذا الوقت بمناقشة الشيخ فى هذه الأفكار ، وعلى أثرها ثم طرد الشيخ من هذه الهيئة العلمية ، وتحمس للشيخ كثير من الذين تصدوا للفكر وسيطروا على وسائل الإعلام فى هذا الوقت واعتبروه مثالاً للتحررية الفكرية ، ومعولاً لهدم الفكر البالى المتمثل من وجهة نظرهم فى الفقهاء وعلماء الدين . 
وهذه خطوة لبحث هذا الأمر بتجردٍ وحيدة .

الرسول صلى الله عليه وسلم يرسى دعائم الدولة :-

انطلقت الشرارة الأولى للدعوة الإسلامية فى مكة المكرمة ، وقد أبى عامة أهلها الانقياد لهذا الدين ، فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم يبحث عن أرض تنطلق منها دعوة الإسلام دون قيود ، فكانت هجرة المستضعفين إلى الحبشة ، وأخذ النبى صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب ويقول : " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفحلوا ، وتملكوا بها العجم فإذا آمنتم كنتم ملوكاً فى الجنة " (1) . 
وينبغى أن نلاحظ فى هذه الدعوة الإشارة إلى الدولة ، وإلى ملك العرب والسيطرة على العجم تحت راية هذا الدين . 
وقد أثمرت هذه الدعوة ، وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقداً مع الأنصار وذلك لتأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وقد عرف هذا العقد باسم بيعة العقبة (2) . 
وما أن خطت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم مدينته الجديدة حتى بدأ فى تأسيس الدولة وإرساء دعائمها ، فبدأ ببناء المسجد ، وآخى بين المهاجرين والأنصار ، وعقد معاهدة مع قبائل اليهود بالمدينة وضمن ذلك كتاباً كان بمثابة الدستور للدولة الجديدة . (ابن هشام – السيرة ج2 ص 318 – 320 ) 
وفى ظل الدولة انطلقت الدعوة ، ولم تمض عدة سنوات حتى دانت جزيرة العرب بالإسلام ، واتسعت رقعة الدولة ، وصار النبى صلى الله عليه وسلم يرسل السفراء إلى ملوك الدول من حوله داعين إلى الإسلام ، ويرسل الأمراء فى أقطار الدولة لجباية الزكوات ، والحكم بين الناس ، فأرسل علياً ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن ، وولى عتاب بن أسيد على مكة وأرسل العلاء بن الحضرمى إلى البحرين ، وفى هذه الأثناء اكتملت الشريعة ، وتوطدت دعائم الدولة ، وأتم الله نعمته على عباده " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " المائدة

دولة الخلافة :-

توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أى لم يصرح للمسلمين باسم القائد والحاكم من بعده ، ولم يجد المسلمون أمامهم سوى أن يقوموا على أمر هذا الدين حتى يكونوا كما وصفهم رب العالمين سبحانه " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " ( آل عمران : 110 ) . 
وقد قام الصديق لينبه الناس إلى هذه الحقيقة فقال :- أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، ثم تلا " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " ( آل عمران 144) . وإن محمداً قد مضى بسبيله ، ولابد لهذا الأمر من قائم يقوم به (3) . 
نعم .. لا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به ، قائم يقوم على أمر المسلمين يؤمهم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً أحل الحلال وحرم الحرام ، وحارب وسالم . 
وهكذا اتفق المسلمون على وجوب الإمامة ، أى على وجوب نصب إمام يقود المسلمين ويخلف النبى صلى الله عليه وسلم فى أمته (4) . 
وعلى هذا الأساس بايع المسلمون أبا بكر خليفة لرسول الله ودخلوا فى طاعته . وهكذا تمخضت النبوة عن خلافة راشدة تسير على منهاج النبوة فى سياسة الناس بشرع الله تعالى . 
وقام أبو بكر بردع المرتدين ، وخرجت جموع المسلمين فى الآفاق ففتح الله عليهم بلاد الفرس والروم ، وفتح بدعوتهم قلوب العباد ، فدخل الناس فى دين الله أفواجاً . 
ولكن زمان الخلافة الراشدة لم يطل ، فصار ملكاً عضوضاً وزالت خلافة الملك فصار ملكاً جبرياً . 
ونحن نأمل فى تطبيق شرع الله على طريقة الراشدين ، وليس معنى هذا أننا نريد أن نرتد إلى الوراء ، وإنما نريد أن نسعى إلى الأمام فى ظل شريعة الإسلام التى أنزلها الله عز وجل وأتمها وأكملها لتحكم الناس فى كل زمان ومكان .

ونحن على أمل أن يقوم المسلمون – حكاماً ومحكومين – بتحقيق هذه الغاية التى بشرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " (5) " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" ( المائدة : 2 ) وإلى لقاء آخر .

الهوامش :
---------------------------

(1) أخرجه ابن سعد فى الطبقات ج1 ص145 ، ونقله ابن القيم ، فى زاد المعاد ج3 ص 43 . وفى سنده محمد بن عمر الواقدى وهو متروك متهم بالكذب ، ثم هو مرسل . وللحديث طرق وشواهد بمعناه دون قوله : " فإذا آمنتم كنتم ملوكاً فى الآخرة " فشطر الحديث الأول صحيح ، وانظر مسند الإمام أحمد (3/492)،(4/63 ،341 ) ، (5/376 ) ، وابن حبان فى صحيحه ( رقم1683- موارد ، ومستدرك الحاكم (2/624) ، ودلائل النبوة للبيهقى ، وانظر البداية والنهاية (3/139) لابن كثير ، والفصول فى سيرة الرسول (ص46-ط دار الصفا ) لابن كثير ، ودفاع عن الحديث النبوى ( 20 – 22 ) للعلامة الألبانى .

(2) كانت هذه البيعة بمثابة عقد تأسيس الدولة الإسلامية ، وقد اختار النبى صلى الله عليه وسلم ممثلين عن باقى الأنصار عرفوا بالنقباء .

(3) ابن كثير – البداية والنهاية ج3 ص 242 وما بعدها .

(4) وهذه من مسائل الإجماع – ومن هنا سمى الحاكم إماماً وخليفة .

(5) أخرجه أحمد فى مسنده ج4 ص 273 ، وأخرجه الطبرانى والبزار وقال الهيثمى : رجاله ثقات – مجمع الزوائد ج5 ص 189 وأخرجه الألبانى فى سلسلة الأحاديث الصحيحة ج1 ص8 حديث رقم (5) .

الأربعاء، 22 يوليو 2009

التعريف بنظام الحكم في الإسلام

التعريف بنظام الحكم في الإسلام
د.جمال المراكبي
نظام الحكم في الإسلام – كما هو واضح من مسماه – نظام يقوم على شريعة الإسلام ، تنفيذًا وتطبيقًا ، إنه يخدم شريعة الإسلام ويخضع لها ، فهو يحكم بها ، ويُحكم أيضًا بها . ويطلق على هذا النظام اسم الخلافة أو الإمامة . وقد يختلط مفهوم الخلافة بمسميات أخرى ، كالولاية ، والإمارة ، والسلطان ، والملك ، حتى يعتقد البعض أنها مترادفات ، وأنها ترمي جميعًا إلى معنى واحد ؛ هو قيادة الأمة . والحق أن للخلافة مدلول خاص لا يتطابق كثيرًا مع هذه الألفاظ التي تفيد عموم الولاية ، وإذا كانت الخلافة ولاية ، فهي ولاية من نوع خاص كما سيتضح لنا فيما بعد .
معنى الولاية والإمارة والسلطان والملك : الولاية تطلق ويراد بها النصرة ، وتطلق على الإمارة ، والسلطان من ولي الشيء وولي عليه ولاية وولاية . وذهب البعض إلى أنها – بالكسر – الإمارة ، وبالفتح النصرة . قال الزجاج : الولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة ، ليفصل بـين المعنيـين . ومن أسماء اللَّه تعالى (( الولي )) ، وهو الناصر ، وقيل : المتولي لأمر العالم والخلائق ؛ القائم بها ، ومن أسمائه عز وجل (( الوالي )) ، وهو مالك الأشياء جميعها ، المتصرف فيها . قال ابن الأثير : وكأن الولاية تشعر بالتدبـير والقدرة والفعل وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الولي([1]) . والإمارة والإمرة كولاية ، والتأمير : تولية الإمارة ، وأمير الأعمى قائده ؛ لأنه يملك أمره ، والأمير : الملك لنفاذ أمره ، أولو الأمر : الرؤساء والعلماء([2]) . والسلطان هو المتسلط ، من السلاطة والقهر ، والاسم سلطة . والسلطان الحجة والبرهان ، والتسلط إطلاق السلطان . قال أبو بكر : في السلطان قولان : أحدهما أن يكون سمي سلطانًا لتسليطه ، والآخر أن يكون سمي سلطانًا ؛ لأنه حجة من حجج اللَّه . ولذلك قيل للأمراء سلاطين من تسلطهم ، أو لأنهم الذين تقام بهم الحجة والحقوق([3]) . والملك والملكوت هو العز والسلطان . وملك اللَّه تعالى وملكوته : سلطانه وعظمته . ولفلان ملكوت العراق ، أي : عزه وسلطانه وملكه . والملك والمُلك والمليك والمالك : ذو الملك . وملّك القوم فلانًا على أنفسهم وأملكوه : صيروه ملكًا([4]) . وواضح أن هذه الألفاظ تفيد عموم القدرة والتدبير والتصرف ؛ لذا كان للمولى تبارك وتعالى كمالها ، وكان للبشر منها ما يناسب قدرتهم .
معنى الخلافة : جاء في (( اللسان )) : واستخلف فلانًا من فلان : جعله مكانه . وخلف فلان فلانًا إذا كان خليفته . يُقال : خلفه في قومه خلافة K وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي J [ سورة الأعراف ، آية رقم 142 ] . واستخلفته أنا : جعلته خليفتي ، واستخلفه : جعله خليفة . والخليفة الذي يستخلف ممن قبله ، والجمع خلائف وخلفاء . والخلافة : الإمارة ، وهي الخليفي ، وفي حديث عمر : (( لولا الخليفي لأذنت )) ، وهو مصدر يدل على الكثرة ، يريد به كثرة اجتهاده في ضبط أمور الخلافة وتصريف أعنتها . والخليفة : السلطان الأعظم ، وقد يؤنث . وقال الفراء في قوله تعالى : K هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ J [ سورة فاطر ، آية رقم : 39 ] : جعل أمة محمد خلائف كل الأمم ، وقيل : خلائف في الأرض يخلف بعضكم بعضًا([5]) . وواضح أن كلمة خلافة تشير إلى قيام شخص محل شخص آخر أو قيام جماعة مقام جماعة أخرى . وليس في معنى الكلمة أية إشارة إلى ما جاء في معاني الألفاظ السابقة من القدرة والتصرف والتدبـير . ولقد ظهر في الفقه الإسلامي اتجاه يرى أن الخلافة نيابة عن اللَّه تعالى([6]) . قال الزجاج : جاز أن يقال للأئمة خلفاء اللَّه في أرضه ، بقول اللَّه عز وجل : K يَا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ J ([7]) . ولكن هذا الاتجاد لقي معارضة شديدة ؛ لأنه يتنافى مع كمال اللَّه تعالى ، فاللَّه تعالى حاضر لا يغيب . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : والخليفة هو من كان خلفًا عن غيره ، والمراد بالخليفة أنه خلف من كان قبله من الخلق ، والخلف فيه مناسبة ، كما كان أبو بكر الصديق خليفة رسول اللَّه S ؛ لأنه خلفه على أمته بعد موته ، وكما كان النبي S إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف على المدينة من يكون خليفة له مدة معينة . وقد ظن بعض القائلين الغالطين أن الخليفة عن اللَّه مثل نائب اللَّه ، وزعموا أن هذا بمعنى أن يكون الإنسان مستخلفًا . واللَّه لا يجوز له خليفة ، ولهذا لما قالوا لأبي بكر : يا خليفة اللَّه ، قال : لست بخليفة اللَّه ، ولكني خليفة رسول اللَّه S ، وحسبي ذلك . بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره ، قال النبي S : (( اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأرض … )) . والخليفة إنما يكون عند عدما لمستخلف بموت أو غيـبة ، ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف ، وكل هذه المعاني منتفية في حق اللَّه تعالى وهو منزه عنها ، فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب . ولا يجوز أن يكون أحد خلفًا منه ، ولا يقوم مقامه ؛ لأنه سمى له ولا كفء له ، فمن جعل له خليفة فهو مشرك به([8]) .
معنى الإمامة : جاء في (( لسان العرب ))([9]) : أم القوم وأم بهم : تقدمهم ، وهي الإمامة . والإمام : كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين . قال الجوهري : الإمام الذي يقتدى به ، وجمعه : أيمة . وإمام كل شيء قيمه ، والمصلح له ، والقرآن إمام المسلمين ، وسيدنا محمد S إمام الأئمة ، والخليفة إمام الرعية ، وإمام الجند قائدهم . وهذا أيم من هذا وأوم من هذا : أي أحسن إمامة منه . ويقال : فلان حسن الإمة : أي حسن القيام بإمامته إذا صلى بنا . والإمام : المثال . والإمام : الخيط الذي يمد على البناء فيبنى عليه ويسوى عليه . والدليل إمام السفر . وقال الراغب : الإمام : المؤتم به ، إنسان كان يقتدى بقوله أو فعله ، أو كتابًا أو غير ذلك ، محقًا كان أو مبطلاً([10]) . ويلاحظ أن كلمة الإمامة قد وردت في أكثر آيات الكتاب دالة على الهداية إلى الخير ، ولكنها استعملت أيضًا على أنها تفيد معنى الشر ، ولهذا قال صاحب (( اللسان )) : الإمام كل من ائتم به قوم ، كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين ، وكذلك قال الراغب : الإمام المؤتم به محقًا كان أو مبطلاً . ولكن الكلمة إذا أطلقت فإنها تفيد معنى الهداية إلى الخير ، كما في قوله تعالى : K إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا J [ سورة البقرة ، آية رقم : 124 ] ، وقوله : K وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا J [ سورة السجدة ، آية رقم : 24 ]([11]) ، أما حين يراد بها معنى الشر فإنها تأتي مقيدة به ، كما في قوله تعالى : K فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ J [سورة التوبة ، آية رقم 12]([12]) . وإذا كان القرآن الكريم قد وصف الأنبـياء والهداة المتقين بأنهم أئمة ، فلعل إطلاق اسم الإمامة على نظام الحكم الإسلامي يتضمن الإشارة إلى أن هذا النظام نظام هداية ورشاد . إن لفظ الإمامة يعني الاقتداء والاتباع الواجب على جميع الأمة للإمام القائد الذي يمسك بزمام الأمور ، فهو إمام الصلاة ، وإمام الحجيج ، وإمام المجاهدين . ولفظ الخلافة يعني حلول الإمام – الخليفة – محل رسول اللَّه S في قيادة الأمة ، إنه يقوم في مقام النبي S في كل شيء ما عدا تلقي الوحي الذي هو من خصائص النبوة . إن بين الاسمين صلة وثيقة تجمع بينهما ، إنهما يرميان في الشرع والاصطلاح إلى معنى واحد هو قيادة الأمة الإسلامية بشرع اللَّه تعالى ، تأسيًا واقتداء برسول اللَّه S ، وخلافة عنه . لقد تعددت التعريفات التي أطلقها الفقهاء على الخلافة – الإمامة – وإن كانت جميعها ترمي إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه ، وسوف نذكر بعض هذه التعريفات على سبيل المثال : 1- الإمامة رياسة تامة ، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة ، في مهمات الدين والدنيا([13]) . 2- رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ، ليس فوقها يد([14]). 3- الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به([15]) . 4- حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها – إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة – فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين ، وسياسية الدنيا به([16]) . وواضح أن كل هذه التعريفات قد ركزت على أمور هامة تميز الخلافة كنظام للحكم عن غيرها من هذه الأمور : 1- عموم الولاية ، فهي رياسة عامة وتامة تـتعلق بالخاصة والعامة وهي حمل للكافة . وفي هذا العموم إشارة إلى وحدة الخلافة ، فولاية الخلافة عامة على دار الإسلام . 2- عموم الغاية . فغايتها حفظ الدين – حراسة الدين – وسياسة الأمة به أو سياسة الدنيا به . وفي هذا العموم إشارة إلى أن اختصاصات الخليفة عامة ، تجمع بـين أمور الدين والدنيا . 3- القيام مقام صاحب الشرع في قيادة الأمة به ، فهي خلافة النبوة على حد تعبـير الماوردي ، أو خلافة عن صاحب الشرع على حد تعبـير ابن خلدون . 4- تنفيذ الشرع الإسلامي ، فهي تحكم بشرع اللَّه ، وتُحكم به ، فلا يجوز الخروج عليه بحال ، فهي رياسة عامة بحكم الشرع ، وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي . وعلى هذا فالخلافة – الإمامة – هي الحكومة الإسلامية الشرعية . أو بعبارة تعين المعنى وتحدده هي الحكومة التي تكون الشريعة الإسلامية قانونها الأكبر – الدستور – وقانونها العادي ، والتي تستمد سند شرعيتها من الشريعة ، والتي يخضع لسلطانها كل المسلمين على الإقليم الإسلامي الكبـير . وإذا كانت الإمامة تساوي الخلافة عند أهل السنة ، فإن الشيعة يذهبون إلى أن الإمامة أخص من الخلافة فهي أكمل ؛ لأن الإمام عندهم هو صاحب الحق الشرعي في ولاية أمر المسلمين ، سواء تولى بالفعل أم لا ، أما الخليفة فهو صاحب السلطة الفعلية ، أما إذا تولى الإمام السلطة فعلاً ، فهو إمام وخليفة كما عند أهل السنة([17]) .
الخلافة الصحيحة والخلافة الناقصة : من الجدير بالذكر أن نميز في هذا الصدد بـين نظام الخلافة الصحيحة أو خلافة النبوة ، وبـين نظام الخلافة الناقصة أو خلافة الملك ؛ لأن عدم التميـيز بين النظامين يسبـب خلطًا ووهمًا ، مما يساعد على عدم فهم طبيعة النظام الذي نحن بصدده . وهذا التميـيز ليس بدعًا ، فقد وردت به النصوص ، وأجمع عليه المسلمون ، قال رسول اللَّه S : (( خلافة النبوة ثلاثة سنة ، ثم يؤتى اللَّه ملكه – الملك – من يشاء ))([18]) . وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن خلافة الخلفاء الراشدين هي خلافة النبوة ، وأن من بعدهم من الخلفاء كانوا ملوكًا ، أو بتعبـير أدق خلافتهم خلافة ملك . وخلافة الملك خلافة ناقصة ، أو هي خلافة ضرورية ، يقبلها المسلمون حين يعجزون عن تحقيق الخلافة الراشدة ، وهذا يكون لنقص في الراعي والرعية جميعًا ، فإنه كما تكونون يولى عليكم . وقد استفاض وتقرر ما قد أمر به النبي S من طاعة الأمراء في غير معصية اللَّه ، ومناصحتهم ، والصبر عليهم في حكمهم ، وقسمهم ، والغزو معهم ، والصلاة خلفهم ، ونحو ذلك من متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلا هم ، فإنه من باب التعاون على البر والتقوى ، وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانـتهم على ظلمهم وطاعتهم في معصية اللَّه ، ونحو ذلك مما هو من باب التعاون على الإثم والعدوان([19]). وخلافة الملك غير جائزة في الأصل ، وذلك لأن خلافة النبوة واجبة ، وقد قال النبي S : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديـين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة )) . بعد قوله : (( فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثير ))([20]) . فهذا أمر وحض على لزوم سنة الخلفاء الراشدين ، وأمر بالاستمساك بها ، وتحذير من المحدثات المخالفة ، وهذا الأمر والنهي من النبي S دليل بيّن في والوجوب([21]) . وأيضًا فكون النبي S استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب([22]) . إن أساس نظام الخلافة الناقصة كما سبق أن بـينا هو فكرة الضرورة ، فالضرة تجعل المحظور جائزًا ، فحكومة الخلافة الناقصة جائزة طالما أنها تمثل أخف الضررين ، فقيام حكومة خلافة ناقصة أخف ضررًا من غياب كامل للحكومة الإسلامية – للخلافة الصحيحة . ومعلوم أن الضرورة تقدر بقدرها ، وينـبني على ذلك أمران : الأول : أن تلتزم الحكومة الناقصة بتطبيق كل قواعد الحكومة الصحيحة التي لا تعطلها الضرورة . الثاني : أن الحكومة الناقصة لا تستمر إلا طالما وجدت حالة الضرورة التي سبـبتها فقط ، وتـزل بزوال هذه الضرورة([23]) .
ومن الضرورات التي تفرض الخلافة الناقصة : - التغلب وهو أن يفرض شخص أو جماعة سيطرتهم بالقوة . - وغياب مستوفي الشروط ، فيضطر الناخبون لاختيار من لم تتوفر فيه الشروط كاملة([24]) . والخلافة الناقصة ليست ملكًا خالصًا ، كالملك الطبـيعي الذي حمل على الكافة على مقتضى الغرض والشهوة ، والملك السياسي الذي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار ، وليست خلافة كاملة راشدة – خلافة نبوة – وإنما هي مزيج بـين الخلافة والملك ؛ لأجل ذلك كانت تسميتها خلافة ملك . ويجوز تسمية من بعد الراشدين خلفاء ، وإن كانوا ملوكًا ، ولم يكونوا خلفاء الأنبـياء ، بدليل قول النبي S : (( … وستكون خلفاء فتكثر )) . قالوا : فماذا تأمرنا ؟ قال : (( فوا بـبـيعة الأول فالأول ))([25]). فقوله : (( فتكثر )) دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرًا ، وقوله : (( فوا بـبـيعة الأول فالأول )) دل على أنهم يختلفون ، والراشدون لم يختلفوا([26]) . وأصرح من ذلك قول النبي S : (( إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ))([27]) ، والراشدون كانوا أربعة . وفي الأثر أن عمر بن الخطاب سأل سلمان الفارسي : أملك أنا أم خليفة ؟ فقال سلمان : إن أنت جبـيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقل أو أكثر ، ثم وضعته في غير حقه ، فأنت ملك غير خليفة . وفي رواية أخرى أن عمر قال : واللَّه ما أدري أخليفة أنا أم ملك ؟ فقيل له : أن الخليفة لا يأخذ إلا حقًّا ، ولا يضعه إلا في حق([28]). ومما هو جدير بالذكر أنـنا نحاول في هذه الدراسة أن نـتـناول نظام الخلافة الصحيحة دون نظام الخلافة الناقصة ، وهذا لا يعني أنـنا لا نشير في بعض الأحيان إلى نظام الخلافة الناقصة ، إن نظام الخلافة الصحيحة هو المثل الأعلى الذي نصبو إليه ، ونطمع في تحقيقه ، إنه النظام الذي وعد اللَّه به المؤمنين الذين استكملوا الإيمان بالعمل الصالح ، إنه النظام الذي أسسه النبي S وأرسى قواعده ، وبلغ الذروة في عهده خلفائه الراشدين ، وما تحقيقه بـبعيد ، وما ذلك على اللَّه بعزيز . (( تكون النبوة فيكم ما شاء اللَّه أن تكون ، ثم يرفعها اللَّه إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء اللَّه أن تكون ، ثم يرفعها اللَّه إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء اللَّه أن يكون ، ثم يرفعها اللَّه إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكًا جبريًا ، فتكون ما شاء اللَّه أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ))([29]).
الهوامش :
([1]) لسان العرب ، ابن منظور ، ج 6 ص 4920 بتصرف . دار المعارف . ([2]) لسان العرب ج 1 ص 128 بتصرف . وانظر : مختار الصحاح ط نظارة المعارف العمومية سنة 1904 م ص 36 . ([3]) لسان العرب ج 3 ، ص 2065 . ([4]) لسان العرب ج 4 ص 4266 . ([5]) لسان العرب ج 1 ص 1235 . ([6]) ذهب الأستاذ المودودي إلى أن الإنسان خليفة اللَّه في الأرض ، والمراد بالخلافة في الأرض خلافة حكومة الأرض ومملكتها ، ففي الخلافة يتبدى معنى الحاكمية والسلطان باعتبار أنها خلافة إلهية ونيابة عن الحاكم الأعلى ، فالإنسان هو خليفة اللَّه في أرضه بما تحمله من أمانة التكليف : K إن عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً J [ سورة الأحزاب : 72 ] . فلفظ الأمانة يوضح مفهوم الخلافة ومعناها ، وكلا اللفظين يلقى الضوء على وضع الإنسان الصحيح بالنسبة إلى نظام العالم ، فهو حاكم الأرض ، لكنه حكمه لها ليس في ذاته وأصله ، بل هو حكم مفوض إليه Delegated . ومن ثم عبر اللَّه عن سلطانه المفوضة إلى الإنسان بلفظ الأمانة ، وعلى هذا سمى اللَّه من يستخدم هذه السلطات المفوضة إليه من جانبه تعالى (( خليفة )) . الحكومة الإسلامية ص 87: ص 93 ، ن المختار الإسلامي . وعلى هذا الأساس أقام المودودي نظريته في الخلافة ، فاللَّه تعالى هو الخالق والسيد الحاكم ، والذين يقومون بتنفيذ قانون السماء ما هم إلا نوب عن الحاكم الحقيقي ، وهذا موقف أولي الأمر في الإسلام والذين وعدهم اللَّه تعالى بالاستخلاف في الأرض : K وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا J [ سورة النور : 55 ] . وفي هذه الآية يبدو أمران عظيمان : الأول : أن الإسلام يستعمل لفظ الخلافة بدل الحاكمية ، وإذا كانت الحاكمية للَّه خاصة ، فكل من قام بالحاكم في الأرض وفق شريعة الإسلام يكون خليفة للحاكم الأعلى . الثاني : أن اللَّه قد وعد جميع المؤمنين بالاستخلاف ، ولم يحدد أحدًا بعينه ، فالمؤمنون كلهم خلفاء اللَّه خلافة عامة ، وهذه الخلافة العامة لا يختص بها فرد أو أسره أو طبقة ، بل كل مسلم خليفة ، وهو مسئول أمام ربه ، كما قال النبي S : (( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )) . ثم ذكر الإمام والرجل العادي حتى المرأة والعبد . ( البخاري ك الأحكام ب 1 ج رقم 7138، ومسلم ك الإمارة ب 5 ح رقم 1829) . ومن هنا يبدو أن اللَّه قد خول المؤمنين حاكمية شعبية مقيدة بسلطة اللَّه القاهرة وحكمه الذي لا يغلب ، ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراء المسلمين ، وبـيدهم يكون عزلها من منصبها ، ومن هنا تبدو الصبغة الديمقراطية ، وتزول شبهة الثوقراطية . فالخليفة نائب عن الأمة – مجموع الخلفاء عن اللَّه – ليقودها بمقضتى شرع اللَّه إلى ما فيه مصلحتها الدنيوية والأخروية ، فليس للخليفة ، بل وليس لجميع الأمة الخروج على مقتضى الشرع وإلا زالت عنهم صفة الخلافة العامة ، ولذلك فلو خرج الخليفة على مقتضى الشرع وجب الخروج عليه على جميع الأمة . ( بتصرف من كتاب نظرية الإسلامية السياسية ص 17 : ص 25 ) . وقد رتب الدكتور القطب طبلية على هذه النظرية نتائج منها : أن وعد اللَّه الذين آمنوا بالاستخلاف وعدًا عامًا يشمل جميع المكلفين ، فلا يمكن تخصيصه واعتباره خاصًا بالرجال دون النساء ، وعلى هذا فإن حق التصويت يكون ثابتًا لكل بالغ عاقل ذكرًا كان أو أنثى . وهذا العام الذي جاءت به الآية الكريمة يقيده الخاص الذي جاء في الحديث : (( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )) . أخرجه البخاري ك الفتن ح 7099 . والقاعدة أن تقيـيد الخاص للعام يكون في أضيق الحدود ، فلا تحرم المرأة في نطاق الحقوق السياسية – فيما يرى – إلا من رئاسة الدولة ، وكذلك من رئاسة الوزراء في النظام البرلماني . ( د . القطب طبلية – الوسيط في النظام الإسلامي – الحلقة الثالثة : الإسلام والدولة ص 45، ط أولى سنة 1982 ، ن دار الاتحاد العربي ) . ([7]) لسان العرب ج 2 ص 1235 . ([8]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – جمع وترتيب عبد الرحمن محمد بن قاسما لعاصمي النجدي الحنبلي – المجلد الخامس والثلاثون طبع بإشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين ص 43 – 45 . ([9]) ابن منظور ج 1 ص 133 . ([10]) الراغب الأصفهاني ، المفردات في غريب القرآن ص 24 ، ن دار المعرفة ، بيروت . ([11]) وانظر الآية الخامسة من سورة القصص . ([12]) وانظر الآية رقم 41 من سورة القصص . ([13]) الجويني ، غياث الأمم في التياث الظلم ص 15 ، ط أولى سنة 1400 هـ ، ن دار الدعوة بالإسكندرية ، تحقيق د . مصطفى حلمي ، ود . فؤاد عبد المنعم . ([14]) أحمد بن يحيى المرتضى ، البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأنصار ج5 ص 374 نقلاً عن كتاب الدكتور القطب طبلية ، المرجع السابق . ([15]) الماوردي ، الأحكام السلطانية ، ص 5 ، ن دار الفكر ، ط سنة 1893 . ([16]) ابن خلدون – مقدمة ابن خلدون ص 19 . ن دار القلم ، بيروت ، ط خامسة سنة 1984م . ([17]) د . محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية ص 108، ن دار المعارف . ([18]) أبو داود ك السنة ب 8 ، والترمذي ك الفتن ب 48 ح 226 وحسنه ، وأحمد ج4 ص273، ج5 ص 44 ، 50، ونقل المروزي عن أحمد أنه حديث صحيح . ([19]) ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، ج 35 ، ص 20، 21 . ([20]) أخرجه الأربعة إلا النسائي ، وأخرجه أحمد 4/126، والدارمي في المقدمة ب15، وأبو داود ك 29 السنة – ب 5 ، وابن ماجه ، المقدمة ب 6 ، ح رقم 42 ، والترمذي ك العلم- ب16 ح رقم 2816 ، وقال : حديث حسن صحيح ج 4 ص 149 . ([21]) ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، ج 35، ص 22 . ([22]) ابن تيمية ، المرجع السابق ، أشار إلى رواية أبي بكرة رضي اللَّه عنه أن النبي S استاء للرؤيا ، فقال : (( خلافة نبوة ، ثم يؤتي اللَّه الملك من يشاء )) ص 22 . ([23]) د . عبد الرزاق السنهوري – فقه الخلافة وتطورها ، ص 258 ، ترجمة عن الأصل الفرنسي قامت بها ابنـته الدكتورة نادية ، ونشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1989م ، وقد عرض سيادته لفكرة الخلافة الناقصة عرضًا وافيًا ، وقد ترفـنا في النقل عنه . ([24]) سوف يتضح ذلك تفصيلاً في مباحث القسم الثاني من هذه الرسالة . ([25]) مسلم ك الإمارة ، ب 10 الأمر بالوفاء بـبـيعة الخلفاء الأول فالأول ح رقم 1842. ([26]) ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ج 35 ، 20 . ([27]) مسلم ك الإمارة ، ب 1 الناس تبع لقريش ح رقم 1821 وما بعدها . ([28]) ابن سعد ، الطبقات الكبرى ج 3 قسم 1 ص 221 . ([29]) أخرجه أحمد في المسند 4/273 . قال الهيثمي : رواه أحمد والبزار أتم منه والطبراني بـبعضه في الأوسط ورجاله ثقات . مجمع الزوائد 5/189، والحديث صحيحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ج1 ص8 ح رقم ( 5 ) .