من هو الأعظم
د. جمال المراكبي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ففي ظل الظروف العصيبة التي تعصف بالأمة الإسلامية وفي خضم الأحداث المتلاحقة التي تنزل بها صارت الفتن تعرض علينا في بيوتنا من خلال أجهزة الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت وأجهزة التلفاز بلا ضوابط.
فقد تلقيت كتابًا عَبر شبكة الإنترنت بعنوان "من هو الأعظم: المسيح أم محمد؟ سؤال لابد من جوابه"، والذي كتب هذا الكتاب قس نصراني، وقد أتى هذا القس بآيات من القرآن الكريم وعبارات من السنة النبوية المطهرة، وأَوَّلها على هواه ثم ساقها في صورة قصة، وظني به أنه يكذب ويريد أن يموه بكلامه على الشباب، ومما يؤكد هذا الظن أنه قد وزعت نشرة من قبل بعنوان: أي الإثنين أقدر عيسى أم محمد؟ وقد وردت تلك النشرة بصيغة أخرى، ولكن مضمونها واحد؛ يقول هذا القس: "اعتاد أحد خدام الرب زيارة السجون في إحدى البلدان العربية ليعلن طريق الحياة للمساجين وكان يحصل على رخصة رسمية من دوائر الحكومة لزيارة كل من يريد أن يسمع بشارة الحق والسلام التي تطهر القلوب وتغير الأذهان، دخل مرة إلى جماعة من السجناء محكوم عليهم بالسجن أكثر من عشر سنوات وكانوا قد عرفوه من زياراته السابقة وتعودوا أن يستمعوا إلى إرشاداته للحق وبشرى الخلاص وكانوا يتباحثون بعد خروجه حول خطاباته بشدة وحماس لا نظير لهما، ولما دخل هذه المرة إلى زنزانتهم أقفلوا فورًا الباب وراءه قائلين له: إنك لن تخرج من هذه الغرفة إلا إذا جاوبتنا جوابًا قاطعًا وصريحًا على سؤالنا، ثم سألوه هذا السؤال من هو الأعظم؟ محمد أم المسيح؟ فلما سمع خادم الرب هذا السؤال قال في نفسه وهو في حيرة: إن قلت إن محمدًا هو الأعظم يهاجمني السجناء المسيحيون، وإن قلت إن المسيح هو الأعظم لربما يقوم أحد المسلمين عليَّ ويكسر رقبتي من شدة غيظه، فصلى خادم الرب في قلبه سائلاً ربه ليلهمه الإجابة الحكيمة المقنعة لهؤلاء السجناء فألهم الروح القدس هذا الخادم المتضايق وهو خلف الباب المغلق جوابًا واضحًا قدمه بتواضع فابتدأ رجل الله يقول: أنا مستعد أن أقول لكم الحق الصريح، إنما السؤال المطروح أمامي ليس هو الموضوع الذي أعددته لكم اليوم من الكتاب المقدس ولكن إن صممتم على أن تسمعوا المقارنة بين محمد والمسيح فلا أخفي عنكم الحقيقة، إنما لست مسئولاً على ما ينتج عن شروحاتي بل أنتم المسئولون لأنكم أجبرتموني على إجابة سؤال لم أطرحه وما نويته إطلاقًا، فهذا هو ردي لا أقرر أنا من هو الأعظم، بل أترك القرآن والحديث أن يعطيكم جوابًا مقنعًا".
ثم بدأ يسوق مسائل معينة في صورة ساذجة فتكلم عن ولادة محمد والمسيح عليهما السلام، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم وُلد بطريقة طبيعية، أما المسيح فقد ولد من روح الله، ثم تحدث عن الوعود الإلهية عن محمد والمسيح عليهما السلام، وأن الله تعالى بشر مريم أنه سيولد المسيح منها فهو كلمة الله المتجسد، أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس كذلك، ولكنه كما في القرآن تلقى الوحي ونقله إلى مستمعيه ولم يبشر الله أمه آمنة بشارة خاصة، وأن مريم عليها السلام ورد اسمها في القرآن 34 مرة، وأن آمنة لم يرد اسمها في القرآن ولو مرة واحدة؛ ثم تحدث عن براءة محمد والمسيح عليهما السلام، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لما كان فتيً أتى إليه ملكان وطهرا قلبه، أما المسيح فقد ورد في القرآن أن مريم ستلد غلامًا زكيًا، أي صافيًا نقيًا وبلا خطية، ثم تحدث عن الوحي لمحمد والمسيح عليهما السلام، وأن جبريل كان إذا نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - يغشى عليه، أما المسيح فلم يرسل الله جبريل إليه البتة، ولم يتقبل المسيح وحيًا بواسطة شخص ثالث لأنه كان نفسه قول الحق المتجسد وكلمة الله الأزلي وروحًا منه منبثقًا من الله نفسه عارفًا إرادته، ثم تحدث عن آيات محمد - صلى الله عليه وسلم -، وآيات المسيح عليه السلام، وأن آيات محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن، فليست آياته أعمالاً بل كلام، ويشهد القرآن للمسيح عليه السلام بكلمات محدودة أنه الطبيب الأعظم المبارك، وأنه محيي الموتى، وأنه الفتى الخالق وأنه الرازق اللطيف، وأنه كاشف الأسرار وأنه المشرع العظيم يريد بذلك أن يقول المسيح عليه السلام هو الله، ثم يقول: طوبى لمن يدرك أن المسيح - عليه السلام - ليس إنسانًا عاديًا، ولا مجرد نبي بل هو المشرع بلسان الله؛ ثم تحدث عن محمد والمسيح - عليهما السلام - بعد موتهما، وأن محمدًا دفن في المدينة المنورة، أما المسيح - عليه السلام - فقد رفعه الله إليه، ثم تحدث عن سلام محمد وسلام المسيح عليهما السلام، وأن المسيح - عليه السلام - آية الله ورحمة الله.
وهكذا ظل هذا القس الجاهل يتحدث ويؤول آيات القرآن الكريم وعبارات السنة النبوية المطهرة على هواه، وبعد هذا الكلام قام من وسطهم ولم يمنعه أحد بل فتحوا له الباب وسمحوا له بالخروج وتهيجت الأبحاث في الزنزانة واستمرت إلى الليل.
ونقول: هذا الكلام لا خوف منه على من عرف عقيدته، لكن الخطر أننا تركنا أبناءنا في مقاهي الإنترنت، بل أصبحنا لا نخشى عليهم الشبهات التي تعرض عليهم وتركناهم يتعرضون للمواقع التبشيرية التي ازدادت بكثرة في وقتنا الحاضر وإلى غرف النصارى التي لا تخلوا من السب الدائم للنبي - صلى الله عليه وسلم - والتطاول على الله - سبحانه وتعالى - وعلى الدين الإسلامي ولم نعلمهم شيئًا والمدرسة لا تعلمهم من ذلك شيئًا فيبقى الشاب عرضة لحديث شاب مثله ثم لا يوجد شيء يحميه من الشبهات وجميعنا نعلم أن هذه الشبكة العنكبوتية فيها من صنوف الضلالات ومن ألوان الشبهات ما يضل به الشيخ الكبير فضلاً عن الشاب الصغير، فلو عرضت على الشاب شبهة من الشبهات كتلك التي بين أيدينا تجده إما أن يتعصب لنبيه وربما ينال من المسيح عيسى - عليه السلام -، وإما أن يتشكك ويقول: لا أدري، وإما أن يسكت على جهل وشك، ولو عرف من كتاب ربه آية واحدة في خواتيم سورة البقرة هي قوله تعالى: "لا نفرق بين أحد من رسله"، لما انطلت عليه هذه الشبهة؛ فنحن أمة الإسلام آمنا بالله تعالى وبملائكته وبكتبه وبرسله ثم نعلنها صريحة لا نفرق بين أحد من رسله فلا نقول هذا خير من هذا ودائمًا ما نقع في هذا الخطأ بل نجد خطيبًا يصعد المنبر فيبني خطبة كاملة على أفضلية محمد - صلى الله عليه وسلم - على الرسل، ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين والمبعوث رحمة للعالمين، وأنه بعث للناس كافة وخصائصه وخصائص أمته كثيرة لكنه - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التفضيل بين الأنبياء، فقال: "لا تفضلوني على موسى". وقال: "لا يقولن أحد أنا خير من يونس بن متى"، وكثرًا ما يفتعل أصحاب الضلالة معارك بين أنبياء الله ورسله وبين أتباع النبيين، وقديمًا قال المعرى أحد دعاة الضلالة:
في الأرض قامت ضجة *** ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق *** وذا بمئذنة يصيح
كل يعظم دينه *** بالله قل لي ما الصحيح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق