الخميس، 14 يوليو 2011

ليلة النصف من شعبان وحكم الاحتفال بها في رأي العلماء

ليلة النصف من شعبان وحكم الاحتفال بها في رأي العلماء
فتحي أمين عثمان

مقدمة البحث



قبل أن أعرض على القارئ الكريم شيئاً عن ليلة النصف من شعبان، وحكم الاحتفال بها، فإني أرى لزاماً عليّ أن أحدثه عن القبلة، وحكمة تحويلها، فمن الثابت أن المنابع الأصيلة للإسلام هي القرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم الصورة الحية المعبر عنها في القرآن والسنة.



ونحن نحب أن نعبد الله تعالى بما شرع في كتابه وسنة نبيه، لا بما يشرِّعُ الناس بأهوائهم وقد تعرض الإسلام للبدع ومحدثات الأمور في العقائد والعبادات وغيرها. وكان ذلك بتخطيط ماكر نسجته عناكب الملل الضالة، وذهب الماكرون وجاء دور المقلدين الغافلين.




ولقد كان من بين ما أحاطه الناس بالبدع والخرافات، ليلة النصف من شعبان، ومما يورث الحسرة أنهم يعضون على تلك البدع بالنواجز ويرون إعادتهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً غريباً.



ولقد أشار علينا بعض الإخوة بأن نجمع ما كُتب عن ليلة النصف من شعبان وعن حكم الاحتفال بها، وعن تحويل القبلة وعبرتها، وعن الأحكام الأصولية المأخوذة منها. ومتى كان التحويل، وماذا أنزل الله في شأنه من قرآن. وكيف استقبل الناس هذا التحويل.



وقد آثرنا أن يكون ما نقدمه للناس في هذا البحث مستمداً من فكر هؤلاء العلماء الأفاضل من ذوي الأحلام والنهى:

الإمام الأكبر الشيخ/ محمود شلتوت.

سماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن باز.

فضيلة الشيخ/ أبو الوفاء درويش.

فضيلة الشيخ/ محمد خليل هراس.



وقد رأينا أن المادة العلمية التي وُجِدت في كتاباتهم، تكفي لطالب الحق إن قرأها، أن يخرج من ظلمات التقليد الجاهلي الأعمى للآباء والأجداد، إلى نور الحق والهدى واليقين.



فإلى الذين يؤرقهم الشوق إلى الحق.



وإلى الذين يؤرقهم الخوف من الحق.



إلى هؤلاء وهؤلاء نسوق هذا الحديث، راجين من الله حسن الثواب.



هذا وبالله التوفيق، ومنه المعونة، وبه الهداية.



معنى القبلة:

القبلة هي الجهة التي يولي الإنسان وجهه شطرها في صلاته، أو هي المكان المقابل الذي يستقبله الإنسان في الصلاة أو في أثناء أداء العبادة.



قبلة الرسل:

يقول الشيخ أبو الوفاء درويش في كتابه "القبلة" عهد الله تعالى إلى آدم ولم يجد له عزماً، ثم تاب عليه وهداه، فصار يعبده ويبتهل إليه بعد أن تلقى منه الكلمات ولكن ليس لدينا نصوص صحيحة نعرف منها أين كانت القبلة التي كان آدم وذريته ونوح ومن معه يولون وجوههم شطرها. أما عن قبلة إبراهيم عليه السلام، فإنه قبل أن يرفع القواعد من البيت، فليس لدينا نصوص تدلنا على القبلة التي كان يتجه إليها، وأما بعد بناء البيت فلا شك في أن البيت الذي بناه كان قبلته. وكذلك كان البيت الحرام المبارك ببكة قبلة إسماعيل يولي وجهه شطره كلما أراد الصلاة لأن شريعته شريعة أبيه إبراهيم، ودان العرب دين إبراهيم واتبعوا ملته وصلوا صلاته وعبدوا الله عبادته فلا بد أن يستقبلوا قبلته، وكانت قبلته الكعبة فلا جرم أن قبلتهم كانت الكعبة كذلك.



وإليك الدليل على ذلك :

المسجد الحرام وهو البيت الذي بناه إبراهيم أول مسجد في الدنيا بني لعبادة الله تعالى لم يسبقه مسجد آخر في أي بقعة من بقاع الأرض. يدل على صحة هذا قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96- 97].



فهأنت ذا ترى أن القرآن الكريم يشهد بأن البيت الذي بمكة هو أول بيت وضع للناس.



رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وطهراه للطائفين والعاكفين والقائمين والركع السجود، وابتهلا إلى الله مخلصين أن يتقبل منهما عملهما وأن يجعلهما مسلمين له، وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة له، وأن يريهما مناسكهما، وأن يتوب عليهما.



وبرهان ذلك قول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 127- 128].



ولما أتم إبراهيم بناء البيت بمعونة إسماعيل أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج، ففعل، فجاءه الناس من كل فج عميق، يشهد بصدق ذلك قول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26]، ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 27- 28].



هذه كلها حقائق يجب أن تقابل بالتسليم، لأنها مؤيدة بأصدق الحجج، مدعومة بأمتن الإسناد.



فإذا ثبت أن البيت الحرام أول بيت وضع للناس، وأن إبراهيم هو الذي بناه بمعونة ولده إسماعيل، وأن البيت مكان طواف وقيام وعكوف وركوع وسجود ثبت أنه قبلة إبراهيم.



وإذا أضفت إلى النصوص السابقة قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ﴾ لم يبق عندك مساغ للريب، ولا مجال للشك في هذه الحقيقة.



ظهور الإسلام :

وظهر الإسلام الذي أرسل به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى عبادة الله وحده، ونبذ بدع الجاهلية وخرافاتهم ووثنيتهم. وظل النبي صلى الله عليه وسلم يتجه إلى الكعبة في صلاته كما كان. هذا يؤيده قول الله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123]، لأنه لا بد أن يستجيب لوحي الله تعالى وأمره وأن يتبع ملة إبراهيم شريعة وعبادة وقبلة.



شرع الصلاة:

وشرعت الصلات ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وكان في هذا الإسراء فوق إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على الكثير من آيات الله رمز إلى أن المساجد لله، وأن دين الأنبياء واحد وإن اختلفت قبلتهم، وأن القبلة ليست مقصودة لذاتها وإنما لتكون رمزاً للتوجه إلى الله وإسلام الوجه إليه ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115].



ولذلك صلى جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم- مستقبلاً بيت المقدس، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بصلاته وصار يصلي بعد ذلك مستقبلاً هذه القبلة الجديدة التي صلى به جبريل إليها.



وهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة حين اشتد أذى قريش عليه وعلى أصحابه، وبنى مسجده في المدينة جاعلاً قبلته إلى بيت المقدس.



المدة التي قضاها الرسول وهو يصلي إلى بيت المقدس:

يقول الشيخ خليل هراس في مقال له في مجلة الهدي النبوي (عدد 8 لسنة 1386 مجلد 31):

كان صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة يصلي مستقبلاً الكعبة بيت الله الحرام. وقيل أنه كان مع ذلك يستقبل صخرة بيت المقدس فكان يصلي بين الركنين اليمانيين، لتقع صلاته إلى القبلتين معاً.



فلما هاجر إلى المدينة تعذر عليه ذلك فأمره الله عز وجل أن يستقبل صخرة بيت المقدس تألفاً لليهود من سكان المدينة لعلهم إذا رأوه يصلي إلى قبلتهم حملهم ذلك على الإنصاف والإذعان للحق وترك ما هم عليه من الجحد والمكابرة، فصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول، ووقع تحويل القبلة في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة فتكون المدة التي قضاها في التوجه إلى بيت المقدس هي سنة وأربعة أشهر أو خمسة في حين يذكر الشيخ أبو الوفاء درويش في كتابه "القبلة" "كان تحويل القبلة ليلة النصف من شعبان".



نقل الإمام القرطبي عن أبي حاتم البستي قال "صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً وثلاثة أيام. وذلك أن قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة كان يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف الأول من شعبان. اهـ.



تحويل القبلة:

وعن تحويل القبلة وتشوق الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يوليه الله إلى البيت الحرام.



يقول الشيخ خليل هراس في مجلة الهدي النبوي:

"عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله عز وجل ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾ فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس وهم اليهود ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.



فصلى مع النبي رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة متفق عليه وروى الكلبي عن ابن عباس في تفسيره قوله تعالى:  ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾ "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وكان يريد الكعبة لأنها قبلة إبراهيم، فقال له جبريل: إنما أنا عبد مثلك لا أملك لك شيئاً؛ فسل ربك يحولك عنها إلى قبلة إبراهيم، ثم ارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بما سأله فأنزل الله هذه الآية.



وعن رغبة الرسول وتشوقه إلى قبلة إبراهيم عليه السلام يقول الشيخ درويش في كتابه القبلة:

لا عجب في تشوق النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قبلة إبراهيم فقد بُعث بإحياء ملته وتجديد شريعته وإظهار دعوته. ولا يعد هذا من قبيل الرغبة عن أمر الله تعالى إلى هوى النفس. كلا، إن هوى الأنبياء لا يعدو أمر الله تعالى وموافقة رضوانه، ولو كان لأحدهم هوى ورغبة في أمر مباح مثلاً وأمر الله بخلافه لانقلبت رغبتهم فيه عنه زهداً فيه، وتعلقاً بما أمر الله به ورضيه.



بل المقام أدق والسر أخفى، وذلك أن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - منطوية على روح الدين في جملته كما ينطوي الجنين النباتي في النواة على الشجرة الفرعاء. قبل أن ينزل عليه الوحي بتفصيل مسائله.



فهي بصفاتها وإشراقها تشعر بحاجة الأمة التي بعث فيها شعوراً إجمالياً لا يكاد يتجلى في المسائل الجزئية والأحكام الفردية إلا عند شدة الحاجة إليها.



عند ذلك يتوجه قلب النبي إلى ربه طالباً بلسان استعداده بيان ما يشعر به مجملاً، وإيضاح ما يلوح له مبهماً فينزل الروح الأمين على قلبه ويخاطبه بلسان قومه عن ربه، وهكذا يكون الوحي إمداداً في مواطن الاستعداد، لا كسب فيه. فالدعاء الصحيح لا يتحقق إلا بإحساس الداعي بالحاجة الملحة إلى عناية الله تعالى، ويعبر اللسان عن هذا الإحساس بالضراعة والابتهال.



سريان الأمر بالتحويل وما يستفاد من ذلك:

جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء جاءهم رجل فقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم: أُنزل عليه الليلة قرآن وأُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها.وكان وجه الناس إلى الشام فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة".



ويقول الشيخ خليل هراس:

في شرحه لحديث البراء رضي الله عنه السابق ذكره، إنه لم يعرف اسم الرجل ولا القوم الذين مر بهم وهم يصلون في مسجدهم ولكنهم على كل حال ليسوا أهل قباء فإن أهل قباء لم يعلموا بتحويل القبلة، إلا في صلاة الصبح كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه.



وقد اختلف في أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة بعد التحويل.



فحديث البراء يفيد أنها العصر، وروي عن أبي سعيد بن المعلى أنها صلاة الظهر وأنه هو وصاحب له. كانا أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبلة الجديدة، وروي كذلك أن الأمر بالتحويل نزل بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر، فاستدار في الصلاة، وكان ذلك في مسجد بني سلمة فسمي المسجد ذا القبلتين.



ويذكر الشيخ خليل هراس أن العلامة ابن دقيق العيد ذكر في شرحه على "عمدة الأحكام" جملة من الأحكام الأصولية والفرعية عند الكلام على حديث ابن عمر المتقدم: وهي:

1- قبول خبر الواحد، وعادة الصحابة في ذلك اعتداد بعضهم بنقل البعض، وورد عنهم في ذلك ما لا يحصى، ومعنى ذلك أن خبر الواحد العدل يفيد العلم بمضمونه ويجب العمل به خلافاً للمتكلمين من المعتزلة وغيرهم.



2- استدل الظاهرية بهذا الحديث على جواز نسخ الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد لأن القوم عملوا به ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.



3- جواز نسخ السنة بالكتاب فإن الصلاة إلى بيت المقدس إنما كان بالسنة إذ لا نص في القرآن على ذلك، وتحويل القبلة إلى الكعبة إنما كان بالكتاب والمنقول عن الشافعي رحمه الله خلاف ذلك.



4- دل الحديث على أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له، فإنهم بنوا ما فعلوه من الصلاة جهة بيت المقدس، ولو ثبت الحكم في حقهم قبل بلوغ الخبر إليهم لكانت صلاتهم باطلة فلا يجوز البناء عليها بل كان يجب استئنافها.



5- قد يؤخذ منه أيضاً جواز الاجتهاد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو بالقرب منه لأنه كان يمكنهم  أن يقطعوا الصلاة ويستأنفوها أو أن يبنوا على ما صلوا فرجحوا البناء.



6- وفي الحديث أيضاً دليل على جواز مطلق النسخ لأن ما دل على جواز الأخص دل على جواز الأعم.



7- فيه دليل على جوز تنبيه من ليس في الصلاة لمن هو فيها وأن يفتح عليه القراءة.



8- قال الطحاوي في هذا دليل على أن من لم يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه الدعوة ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره فالفرض غير لازم له والحجة غير قائمة عليه.



عبرة وحكمة التحويل:

لما كان شأن ذلك التحويل عظيماً، فقد كان امتحاناً امتحن الله به قلوب المؤمنين والمنافقين وأهل الكتاب والمشركين، وقد ذكر كل من الشيخ أبو الوفاء درويش، والشيخ خليل هراس موقف كل طائفة منهم .

يقول الشيخ أبو الوفاء درويش:

أما المؤمنون الذين ثبتهم الله بالقول الثابت، فقد اتبعوا الرسول، وصلوا إلى القبلة الجديدة التي ولاهم الله إياها، بغير اعتراض ولا نكير، بل عن رضاًَ وإيمان وتسليم وإذعان. ( كتاب القبلة للشيخ أبو الوفاء درويش ص14، ص15 ومجلة الهدي النبوي عدد 8 مجلد 31 )

ويتفق الشيخ خليل هراس مع الشيخ درويش في أن المنافقين أخذوا يرجفون بالمدينة. يحاولون أن يقذفوا الشك في قلوب المؤمنين يقولون:

ما يدري محمد أين يتوجه. لئن كانت القبلة الأولى حقاً، لقد تركها وانصرف عنها إلى غيرها باطلاً، ولئن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل أول الأمر ثم اهتدى.



وكقولهم: إن محمداً مضطرب في أمره ينقض اليوم ما أبرم بالأمس، يصلي كل يوم إلى قبلة، ثم يضيف الشيخ درويش:

وأما اليهود فقالوا لقد خالف محمد الأنبياء قبله ولو كان نبياً حقاً لكان يصلي إلى قبلة من سبقه من الأنبياء.



وقال المشركون: يوشك محمد أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، وما رجع إليها إلا لأنها الحق وكثر لغط السفهاء من الناس وخاضوا في لغو كثير مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.



ونظراً لما صاحب أمر التحويل من الإرجاف والطعن فقد وطأ الله عز وجل قبله بآيات كثيرة وأنزل في شأن التحويل طائفة كبيرة من الآيات من سورة البقرة، تثبيتاً لقلوب المؤمنين ورداً على المطاعن والمفتريات التي كان يشغب بها أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين.



وحول معاني هذه الآيات يقول الشيخ خليل هراس:

فالآيات من قوله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ﴾ كلها في شأن تحويل القبلة، فذكر سبحانه أولاً أمر النسخ الذي كانت تنكره اليهود وبين قدرته عليه وأنه مهما ينسخ من آية يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ثم أعقب ذلك بالمعاتبة لمن يتعنت على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا ينقاد لأمره وحكمه.



ثم أخبر عن تمني أهل الكتاب أن يردوا المؤمنين كفاراً مثلهم من بعد ما تبين لهم الحق، وأمرهم بالعفو عنهم حتى يأتي الله بأمره فيهم.



ثم ذكر اختلاف اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء وهم يتلون الكتاب. ثم ذكر شركهم بنسبتهم الولد إلى الله. ثم أخبر أن المشرق والمغرب لله فأينما ولى عباده وجوههم فثم وجه الله. ثم أخبر رسوله بأن أهل الكتاب لا يرضون عنه حتى يتبع ملتهم ويصلي إلى قبلتهم، وحذره من اتباع أهوائهم.



ثم ذكر خليله إبراهيم باني البيت الحرام، وكيف أنه جعله للناس إماماً وقدوة في الدين لما وفَّى بكلمات الله.



ثم نوه بشأن البيت وأنه جعله مثابة للناس وأمناً، وأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.



ثم ذكر ما قام به إبراهيم من رفع قواعد البيت الحرام بمعونة ولده إسماعيل عليهما السلام ودعائهما بعد الفراغ من ذلك بأن يتقبل الله عملهما، وأن يجعل ذريتهما أمة مسلمه له، وأن يريهما مناسكهما ويتوب عليهما، وأن يبعث في هذه الأمة المسلمة رسولاً منها يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.



ثم أخبر أن ملة إبراهيم وهي الإسلام الذي يقوم على التوحيد الخالص من كل شائبة لا يرغب عنها إلا كل سفيه أحمق، وأن إبراهيم وصى بها بنيه وكذلك يعقوب عليهما السلام، وبين أنها الدين الحق وليست اليهودية أو النصرانية كما تزعم اليهود والنصارى.



ثم أمر عباده المؤمنين أن يتمسكوا بها وأن يقولوا ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.



وبين أن تلك هي صبغة الله التي لا صبعة أحسن منها، وأن اليهود والنصارى لن يكونوا مهتدين حتى يؤمنوا بها.



ثم أخبر عن مقالة السفهاء في القبلة وقولهم ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ ورد عليهم بأن المشرق والمغرب له وحده فهو الذي يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وأنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.



واتصالاً بهذا الحديث يقول الشيخ أبو الوفاء درويش:

وقد أنزل الله هذه الآية الكريمة قبل أن تحول القبلة بدليل حرف الاستقبال الذي صدرت به الآية، ليثبت بها أقدام المؤمنين، ويربط على قلوبهم، ويهيئهم لاستقبال هذا الإرجاف بالصبر والاحتمال، ويلقنهم الجواب الذي يدفعون به في صدور هؤلاء المارقين.



ثم يحدد رحمه الله - حكمة التحويل في عدة نقاط هي:-

1- المسلمون خير أمة أخرجت للناس: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.



ورسولهم خير الرسل لأنه خاتمهم، وبرسالته تم بناء الدين الذي وضع كل رسول سابق لبنة في هيكله، حتى تم على يدي خاتم النبيين وكتابهم خير الكتب لأنه مصدق لها ومهيمن عليها فناسب ذلك أن تكون قبلتهم خير القبل.



وخير القبل هي المسجد الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس مباركاً وهدى للعالمين. وفيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً.



2- إن الجهة لا تكون قبلة إلا إذا وجه الله الناس شطرها. فكل وجهة وجه الله الناس شطرها فهي قبلة. ولا فضل لجهة على أخرى في ذاتها، ولكن الجهة تفضل غيرها باختيار الله تعالى إياها ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.



3- أراد الله أن يقطع حجة هؤلاء الذين يزعمون أن صخرة بيت المقدس خير من المسجد الحرام، فولى المسلمين الذين هم خير الأمم بشهادته تعالى شطر المسجد الحرام ليثبت أنه خير المساجد. ويدحض حجة المعاندين ﴿ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾.



4- من تمام النعمة على الأمة التي تعد شريعتها متصلة بشريعة إبراهيم ومجددة لها أن تكون قبلتها هي قبلة إبراهيم لتتم لها الهداية ﴿ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾.



5- في تحويل القبلة امتحان لإيمان المؤمنين؛ فإن المؤمن الصادق الإيمان يمتثل أمر الله تعالى بغير اعتراض ولا تردد ولا إنكار. ولكن ضعيف الإيمان يساوره الشك، وتعبث بعقله الظنون وقد يحمله ذلك على الردة، ويدفعه إلى المروق من الإسلام ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾.



6- في تحويل القبلة تحقيق لرجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان يرجو أن يوليه الله شطر البيت الحرام لأنه قبلة إبراهيم الذي بعث هو لتجديد ملته ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾.



7- بيان أن البر لا يقف عند حد تولية الوجه شطر جهة خاصة؛ فمدار الإيمان على طاعة الله وفعل الخير ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].



8- بيان أنه بعد أن بين الله القبلة يكون اتباع غيرها اتباعاً للهوى وانصرافاً عن الحق؛ لأن القبلة التي بينها الله هي الحق ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ؛ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾.



9- تصديق ما أخبرت به كتب أهل الكتاب من أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين.



نصف شعبان


ها نحن أولاء قد رأينا ما حدث في نصف شعبان من هذا الحدث العظيم في تاريخ التشريع الإسلامي، ولكن الناس قد نسوا هذه الفكرة، ونسوا هذا التاريخ المجيد، واتبعوا ما ابتدع لهم أشياع الفتنة وأنصال الضلالة.

ابتدع الفاطميون للناس أن يجتمعوا ليلة النصف من شعبان بعد صلاة المغرب في المساجد ليتلوا سورة "يس" ثلاث مرات.

الأولى بنية طول العمر، والثانية بنية سعة الرزق، والثالثة بنية الاستغناء عن الناس، وبعد كل مرة من هذه المرات الثلاث يلقنهم الإمام دعاء موضوعاً ينسبونه إلى الحبر الجليل عبدالله بن مسعود.

وعن هذا الفهم الخاطئ لدى العامة في أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم، وعن بعض تصرفاتهم الباطلة، يكتب الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر[1]:
قائلاً: قال تعالى: ﴿ نَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الدخان: 3 - 6].

هذه إحدى آيات ثلاث جاءت في القرآن تتحدث عن إنزاله وعن الزمن الذي أنزل فيه.

والآية الثانية هي قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾، والآية الثالثة قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾.

وهذه الآيات الثلاث تأكيد بأن القرآن لم يكن - كما يزعم منكرو الرسالة - من صنع محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من عند الله أنزله بعلمه وحكمته هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

وقد وصفت الآية الأولى الليلة التي أُنزل فيها بأنها "ليلة مباركة" وهي الصفة التي وصف بها القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾، وسميت في الآية الثانية بـ﴿ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾، وهو الشرف وعلو المكانة، وبينت الآية الثالثة أن شهر تلك الليلة هو شهر رمضان الذي فرض الله على المؤمنين صومه تذكيراً بنعمة إنزال القرآن وشكراً لله عليها.

الروايات والآراء:
ومع وضوح الاتساق بين الآيات الثلاث هكذا وتساندها وشد بعضها أزر بعض في تقرير أن القرآن أنزله الله على الناس في ليلة مباركة ذات قدر وشرف، وأن رمضان هو شهر تلك الليلة مع وضوح هذا نرى الروايات والآراء خلقت في كتب التفسير حول هذه الآيات جواً اصطرعت فيه اصطراعاً أثار على الناضرين في القرآن غباراً طمس عليهم محورها الذي تدور عليه، وباعدت بينها في الهدف الذي ترمي إليه، وكان من ذلك ما قيل وذاع بين الناس أن (الليلة المباركة) في الآية الأولى هي: (ليلة النصف من شعبان)، وأن الأمور الحكيمة التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار وسائر الأحداث الكونية التي يقدرها الله ثم يظهر ما يقع منها في العام للمنفذين من الملائكة الكرام، ويمتد الكلام إلى التفرقة بين التقدير الذي يحصل في تلك الليلة، والتقدير الذي يروى أيضاً عن ليلة القدر، ثم إلى الفرق بين كل من هذين التقديرين اللذين يحملان على هاتين الليلتين (ليلة النصف، وليلة القدر) وبين التقدير الأزلي لهذه الأحداث.. يمتد الكلام في الفرق بين هذه التقديرات الثلاثة بما اعتقد ويعتقد كل مؤمن أنه خوض في محجوب وهجوم على غيوب استأثر الله بعلمها، ولم يرد بها نص قاطع من قبله.

الناس في ليلة النصف:
وكان منه أيضاً اعتقاد العامة وأشباههم أن ليلة النصف من شعبان ليلة ذات مكانة خاصة عند الله، وأن الاجتماع لإحيائها بالذكر والعبادة والدعاء والقرآن مشروع ومطلوب، وتبع ذلك أن وُضِع لهم في إحيائها نظام خاص يجتمعون في المسجد عقب صلاة المغرب ويصلون صلاة خاصة باسم (صلاة النصف من شعبان)، ثم يقرؤون بصوت مرتفع سورة معينة هي سورة "يس" ثم يبتهلون كذلك بدعاء يعرف "بدعاء النصف من شعبان" يتلقنه بعضهم من بعض ويحفظونه على خلل في التلقين، وفساد في المعنى، ويكررونه ثلاث مرات: إحداها "بنية طول العمر" والثانية "بنية دفع البلاء" والثالثة "بنية الإغناء عن الناس" ويعتقد العامة أن في التخلف عن المشاركة في هذا الاجتماع نذيراً "بقصر العمر" و "كثرة البلاء" و "الحاجة إلى الناس" وينتهز بعض تجار الكتب ليلة النصف فرصة يطبعون فيها سورة يس مع الدعاء، ويكلفون الصبية توزيعها في الطرقات والمركبات والمجتمعات منادين على سلعتهم "سورة يس ودعاؤها بخمسة قروش[2]".

دعاء نصف شعبان:
ويواصل فضيلة الإمام حديثه عن دعاء نصف شعبان قائلاً:
فإذا كنت ممن لم يوفقوا إلى قراءة هذا الدعاء أو سماعه فاعلم أنهم يطلبون فيه من الله محو ما كتبه في أم الكتاب من "الشقاوة وتبديله سعادة" و "الحرمان وتبديله عطاء" و "الإقتار وتبديله غنى" ويذكرون في تبرير هذا الطلب وحيثياته أن الله قال في كتابه ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ وهو تحريف واضح للكلم عن مواضعه. فإن هذه الآية سيقت لتقرير أن الله ينسخ من أحكام الشرائع السابقة ما لا يتفق واستعداد الأمم اللاحقة، وأن الأصول التي تحتاجها الإنسانية العامة كالتوحيد والبعث والرسالة وتحريم الفواحش دائمة ثابتة وهي "أم الكتاب" الإلهي الذي لا تغيير فيه ولا تبديل، وإذن فلا علاقة لآية المحو والإثبات بالأحداث الكونية حتى تحشر في الدعاء، وتذكر حيثية للرجاء.

ومن هذا المنطلق يتابع الشيخ أبو الوفاء درويش حديثه عن هذا الدعاء الموضوع منكراً نسبته إلى الحبر الجليل والصحابي النبيل عبدالله بن مسعود، مبرءاً إياه من أن يقول قولاً يناقض القرآن مناقضة صريحة، ويصادم ما ورد من السنة الصحيحة مصادمة واضحة.

معللاً ذلك بقوله:
فتأمل هذه العبارة من الدعاء المشار إليه "اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً أو محروماً أو مطروداً أو مقتراً علي في الرزق فامح اللهم بفضلك شقاوتي وحرماني وطردي وإقتار رزقي، وأثبتني عندك في أم الكتاب سعيداً مرزوقاً. موفقاً للخيرات، فإنك قلت وقولك الحق في كتابك المنزل على لسان نبيك المرسل ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾.

فإن ابن مسعود يعلم أن ما كتبه الله على العباد هو ما علمه من الأسباب المفضية إلى مصايرهم ومجاري حياتهم، وعواقب أمورهم، وخواتم شئونهم مما يجري على سنته تعالى، وسنته تعالى لا تتغير ولا تتبدل. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وقد قال تعالى: ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً. وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾، وقال تعالى: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: "جف القلم بما أنت لاق.. رفعت الأقلام وطويت الصحف".

وليس معنى ذلك أننا نتكل على ما كتب وندع العمل، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا نتكل؟ فقال: لا، بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له.

والله سبحانه يعلم تاريخ حياة الإنسان مفصلاً سنة فسنة، وشهراً فشهراً، وأسبوعاً فأسبوعاً، ويوماً فيوماً، وساعة فساعة، ودقيقة فدقيقة، وأدنى من ذلك وأكثر، يعلم ذلك كله على ما يكون عليه مستقبلاً، وذلك هو الذي كتبه، فما كتبه الله هو ما علمه من شئون العبد المسايرة لسنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل.

والناس مخلوقون للعبادة ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾، وهم ميسرون لها ﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، وكل ميسر لما خلق له.

هذا حمل مستكن في بطن أمه، يعلم الله من قبل أن يخلق السموات والأرض أنه يحمل به كذا ويولد يوم كذا.

ويعلم كذلك جميع ما يتصل بحياته من يوم يولد إلى يوم يموت، علماً تاماً كاملاً يقيناً لا شك فيه ولا تردد ولا تغيير ولا تبديل، وإلا انقلب العلم جهلاً. تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً، فيعلم ربنا - مثلاً - أن هذا الوليد سترضعه أمه أياماً ثم يجف لبنها فتسترضعه وتعهد به إلى فلانة حتى يتم الرضاعة. وفي يوم معين يعلمه تعالى يرسل إلى المدرسة فيتعلم كذا وكذا من العلم.

وفي وقت معين يعلمه تعالى يتصل بعشراء أشرار يفسدون أخلاقه، ويستمر على هذا الفساد كذا وكذا سنة، ثم يوفق في ساعة معينة يعلمها تعالى إلى الجلوس إلى رجل صالح ينصح له فيتجه إلى الخير ويهجر عشراء السوء ويعاشر الأخيار، ويقضي بقية حياته في الخير، ثم يموت على ذلك.

ذلك ما يعلمه الله، وذلك ما كتبه.

وهذا المنهاج خفي علينا فلا ندري ما كتبه الله.

وعلينا أن نتجه إلى الخير ونفعل، وكل ما يبدو من أعمالنا وسلوكنا هو الذي كتبه الله.

وليس معنى هذا أنك لا تدعو، وأنك لا تسأل الله من فضله بل الأمر على النقيض من ذلك، فادع الله بما شئت، وسله من خزائن رحمته كلما أردت، على أن تأخذ في أسباب الاستجابة. لأن الدعاء عبادة واستجابتها تابعة لحكمته. ولا تدع الله بما ينافي سنته الحكيمة، أو يخالف نواميس الوجود، فإنك تعلم أن نواميس الكون لا تتبدل، وأن قوانين الوجود لا تتغير، وأن سنة الله لا تتحول. فاسأل الله من فضله ولكن بغير هذا الأسلوب الذي إن تدبرته عرفت ما فيه من إساءة وسوء تعبير.

وأما قوله تعالى ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ فإنه يتعلق بالشرائع السماوية التي ينزلها على عباده في الأوقات التي يقدرها.

وإذا أنت تدبرت الآية التي قبلها تجلى لك ذلك في وضوح وجلاء. فقد جاء قبل هذه الآية قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [الرعد: 38]  فهذا واضح أتم الوضوح في شأن الرسالة والرسل والآيات والمعجزات. فلكل أجل كتاب أي لكل عصر من العصور شريعة توائمه وتناسب استعداد أهله. يمحو الله تعالى من هذه الشرائع عند بلوغ أجلها ما يمحو، ويثبت منها ما يثبت إذا جاء وقته المحدود في علمه تعالى.

فلقد انقضى أجل كتاب موسى وهو التوراة فمحا شريعته وأثبت شريعة عيسى وكتابه، وهو الإنجيل، ولما انقضى أجل شريعة عيسى محاها ونسخ كتابها وأثبت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وثبت كتابها وهو القرآن الكريم الذي ضمن حفظه إلى يوم الدين.

وهذا المحو والإثبات إنما هو في الخارج فقط تنفيذاً لما سبقت به مشيئته. وأما ما في علمه تعالى فلا محو فيه ولا إثبات ولا تغيير ولا تبديل. فقد علم سبحانه أنه سيبعث موسى (مثلاً) بشريعة وكتاب، وأن شريعته تبقى كذا وكذا سنة، ثم ينسخ هذه الشريعة بشريعة رسول آخر اسمه عيسى بن مريم، تظل شريعته قائمة كذا وكذا سنة. ثم ينسخ شريعة عيسى بشريعة نبي آخر هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الذي تبقى شريعته إلى يوم الدين.

هذا ما كتبه الله وما علمه، وهو لا سبيل إلى محو فيه ولا إثبات، وإنما يقع كما علم وكما كتب بغير تغيير ولا تبديل.

وأما قوله "في ليلة النصف من شهر شعبان المعظم التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم" فهو وصف غير صحيح لهذه الليلة. فإن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم إنما هي ليلة القدر. وليلة القدر في رمضان بشهادة القرآن الكريم.

قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾.

فدلت هذه الآية على أن نزول القرآن كان في ليلة القدر.

وقال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾.

ودلت هذه الآية الكريمة على أن نزول القرآن كان في شهر رمضان.

وبالجمع بين هاتين الآيتين الكريمتين نجزم يقيناً أن ليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان.

وقال تعالى:  ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾[الدخان: 3- 4] فدلت هاتان الآيتان على أن القرآن الكريم أُنزل في ليلة مباركة، فيها يفرق كل أمر حكيم.

وبالجمع بين هذه الآيات نجزم يقيناً كذلك أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر إحدى ليالي شهر رمضان.

فثبت إذاً كذب ذلك القول وبُعده عن جادة الحق.

وثبت كذلك أن ابن مسعود في سعة علمه، وعظم فضله، وقوة إيمانه، وحرصه على الحق لا يمكن أن يقول هذا القول المصادم للكتاب والسنة.





إن الله تبارك وتعالى يحب أن يُعبد بما شرع في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين، لا بما يشرع الناس لأنفسهم، ومن هنا كان المعنى الأصيل لشهادة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" أن الكلمة الأولى تعني التوحيد الخالص، والثانية تعني التزام السبيل والشرعة والمنهاج.

وعن عدم مشروعية الاحتفال بليلة النصف من شعبان وحكم ذلك العمل: يقول الشيخ أبو الوفاء درويش في كتابه "القبلة".

حسن جداً أن يعرف الناس أن لهم خالقاً عليماً حكيماً سميعاً بصيراً يبتهلون إليه ويرفعون إليه أكف الضراعة، ويدعونه مخلصين له الدين، ويفزعون إليه في قضاء الحاجات، وكشف الكربات، ودفع الملمات. فالدعاء علم الإيمان وشعاره، وهو مخ العبادة وصفوتها.

وحسن جداً أن يجتمع المسلمون لأداء الصلاة في جماعة فالجماعة سنة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق.

وحسن جداً أن يتلو المسلمون سورة يس ويتدبروا آياتها فقد تضمنت من الآيات الكونية ما فيه بلاغ، ومن الموعظة الحسنة ما تلين له الجلود والقلوب.

ولكن

ولكن الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم يقول: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»[3].
ويقول: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»[4].

ولا جرم أن تخصيص هذه الليلة بمثل هذا النظام من القراءة والدعاء لم يكن عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أمر خلفائه الراشدين، فهو إذاً من محدثات الأمور التي حذرنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم ونهانها عنها. والله سبحانه وتعالى يقولك ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ويقول سبحانه ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾.

وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مظان إجابة الدعاء ومنها السجود، وأدبار الصلوات، وثلث الليل الأخير. وقال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ فبين أن ساعة الاضطرار من الأوقات التي يستجيب فيها الدعاء.

فلندع الله تعالى في أوقات الإجابة على أن يكون دعاؤنا كما قال الله تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾.

وعن عدم مشروعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان وعن كونه بدعة، يذكر سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في كتاب "التحذير من البدع[5]" قوله:
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها نعمته ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا بعد ما بلغ البلاغ المبين وبين للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال وأوضح صلى الله عليه وسلم أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال فكله بدعة مردودة على من أحدثه ولو حسن قصده وقد عرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وهكذا علماء الإسلام بعدهم فأنكروا البدع وحذروا منها كما ذكر ذلك كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضاح والطرطوشي وأبي شامة وغيرهم. ومن البدع التي أحدثها بعض الناس بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيص يومها بالصيام وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله. وورد فيها أيضاً آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم والذي عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة وبعضها موضوع. وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب في كتاب لطائف المعارف وغيره، والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.

وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنا أنقل لك أيها القارئ ما قاله بعض أهل العلم في هذه المسألة حتى تكون على بينة في ذلك، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حكما به أو أحدهما فهو الشرع الواجب الاتباع، وما خالفهما وجب اطراحه، وما لم يرد فيهما من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعله فضلاً عن الدعوة إليه وتحبيذه.

كما قال سبحانه في سورة النساء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾.
وقال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾. الآية من سورة الشورى.
وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾. الآية من سورة آل عمران.
وقال عز وجل: ﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾.

والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضى بحكمها وأن ذلك هو مقتضى الإيمان وخير للعباد في العاجل والآجل ﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ أي عاقبة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه لطائف المعارف في هذه المسألة بعد كلام سبق ما نصه: "وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم وأنكر ذلك علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة، واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويتكحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ووافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك وقال قيامها في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة. نقله حرب الكرماني في مسائله.

والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى.. إلى أن قال: ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحبها في رواية لفعل عبدالرحمن بن يزيد بن الأسود لذلك وهو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام (انتهى المقصود من كلام لحافظ ابن رجب رحمه الله، وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في ليلة النصف من شعبان) وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها للأفراد واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب وضعيف لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله سواء فعله مفرداً أو في جماعة وسواء أسره أو أعلنه لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها.

وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه الحوادث والبدع ما نصه:
(وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم فقال: ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ولا يتلفتون إلى حديث مكحول ولا يرون لها فضلاً على ما سواها) وقيل لابن أبي مليكة: (أن زياداً النميري يقول إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر) فقال: (لو سمعته وبيدي عصا لضربته) وكان زياداً قاصاً، انتهى المقصود.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في الفوائد ما نصه:
حديث: يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات إلا قضى الله له كل حاجته...الخ.

هو موضوع وفي ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب بما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه ورجاله مجهولون، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل.

وقال في المختصر: حديث صلاة نصف شعبان باطل، ولابن حبان من حديث علي: (إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها). ضعيف. وقال في اللآلئ: مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات مع طول فضله للديلمي وغيره موضوع وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء قال: واثنتا عشرة ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة وأربع عشرة ركعة موضوع.

وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب الإحياء وغيره وكذا من المفسرين وقد رويت صلاة هذه الليلة أعني ليلة النصف من شعبان على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى الله عليه وآله وسلم إلى البقيع ونزول الرب ليلة النصف إلى السماء الدنيا وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم كلب فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع. كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه. انتهى المقصود.

وقال الحافظ العراقي: حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه. وقال الإمام النووي في كتاب المجموع: (الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك.

وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفسياً في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير جداً ولو ذهبنا ننقل كل ما اطلعنا عليه من كلامهم في هذه المسألة لطال بنا الكلام ولعل فيما ذكرنا كفاية ومقنعاً لطالب الحق. ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم وليس له أصل في الشرع المطهر بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ وما جاء في معناها من الآيات وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وما جاء في معناه من الأحاديث وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يومها بالصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم»، فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزاً لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء من العبادة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص.

ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وحث الأمة على قيامها وفعل ذلك بنفسه كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه» فلو كانت ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادات لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إليه أو فعله بنفسه. ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة رضي الله عنهم إلى الأمة ولم يكتموه عنهم وهم خير الناس وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم. وقد عرفت آنفاً من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب ولا في فضل ليلة النصف من شعبان فاعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام وكذلك تخصيصهما بشيء من العبادة بدعة منكرة.

وتأكيداً لهذا المعنى السليم والحكم الصحيح يقول الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت –رحمه الله- عن شهر شعبان[6].

والذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وحفظت روايته عن أصحابه، وتلقاه أهل العلم والتمحيص بالقبول إنما هو فقط شهر شعبان كله، لا فرق بين ليلة وليلة. وقد طلب فيه على وجه عام الإكثار من العبادة وعمل الخير، وطلب فيه الإكثار من الصوم على وجه خاص، تدريباً للنفس على الصوم، وإعداداً لاستقبال رمضان حتى لا يفجأ الناس فيه بتغيير مألوفهم، فيشق عليهم.

وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: «شعبان لتعظيم رمضان».

وتعظيم رمضان إنما يكون بحسن استقباله والاطمئنان إليه بالتدرب عليه وعدم التبرم به، أما خصوص ليلة النصف والاجتماع لإحيائها وصلاتها ودعائها لم يرد فيها شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرفها أحد من أهل الصدر الأول.


[1] مجلة الهدي النبوي عدد 8 لسنة 1380هـ ومجلة التوحيد عدد 8 لسنة 1409هـ.
[2] سورة يس معروفة. أما دعاؤها فهو (اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإنعام، لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين. وجار المستجيرين، وأمان الخائفين. اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً أو محروماً أو مطروداً أو مقتراً علي في الرزق فامح اللهم بفضلك شقاوتي وحرماني وطردي وإقتار رزقي. وأثبتني عندك في أم الكتاب سعيداً مرزوقاً موفقاً للخيرات، فإنك قلت وقولك الحق في كتابك المنزل على لسان نبيك المرسل ﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39] إلخ .
[3] وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي لفظ لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».

[4] وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة».

[5] كتاب التحذير من البدع: لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز عبارة عن أربع رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى الشيخ  أحمد.

[6] مجلة التوحيد عدد 8 لسنة 1409هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق