الربا فى الفقة الإسلامى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه، وبعد
في الكتاب العزيز
جاء ذكر الربا في أربع من سور القرآن الكريم، وهي البقرة، وآل عمران، والنساء، والروم؛ إحداها مكية، وهي سورة الروم، قال الله تعالى وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ الروم
ومن المعلوم أن الربا لم يحرَّم إلا في العهد المدني، أي أن هذه الآية الكريمة المكية جاءت من باب التدرج في التشريع، كما حدث مثلاً في تحريم الخمر، فبينت أن الربا غير مقبول عند الله تعالى، وبذلك هيأت الأذهان والنفوس لتلقي حكم التحريم وتنفيذه
ثم نزل التحريم في قوله تعالى من سورة آل عمران يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ آل عمران
وجاءت سورة البقرة بختام هذا التشريع، فبينت سوء المنقلب لمن يتعامل بالربا واعتبرته عدوًّا لله، ولرسوله مستحقًا لحربهما، وأي خسارة بعد هذه الخسارة ؟ فتدبر قوله تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ البقرة
في السنة الشريفة
وجاءت السنة النبوية الشريفة تبين أن الربا من الكبائر، ومن الجرائم الموبقات المهلكات، وأن اللعنة تلحق من يأكله، ومن يُطعمه غيره، ومن يكتبه، ومن يشهد عليه، وانظر مثلاً في كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري تجد ثلاثين حديثًا في الترهيب من الربا
منها ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول قال «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا يا رسول الله، وما هُنّ؟ قال «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» البخاري ، ومسلم
وما رواه مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال لعن رسول الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال «هم سواء» مسلم
وما رواه البخاري بسنده عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت ما هذا؟ فقال الذي رأيته في النهر آكل الربا» البخاري
ولا يسع أي مؤمن يسمع كلام الله تعالى، وكلام رسول الله إلا أن يجتنب الربا أو ما فيه شبهة ربا
لذا وجب أن نعرف ما يتعلق بالربا، وعلى الأخص في زماننا هذا، وقد عمت البلوى، واستشرى الفساد في الأرض، وأصبح كثير من الناس ينطبق عليهم قول الرسول « يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام» البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه
وقوله «ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من بخاره» وفي رواية «من غباره» أبو داود
مفهوم الربا المحرم
الربا في القرآن الكريم
تحدث القرآن الكريم عن الربا في أربع من سوره، وكان الختام هو آيات الربا في سورة البقرة الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ إلى وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ الآيات
وتفسير آيات الربا في السور الأربع يطول ذكره والرجوع إليه بحمد الله تعالى ميسر في كثير من الكُتب، والذي نريد أن نقف عنده هنا هو معنى الربا الذي تحدث عنه القرآن الكريم، وكان شائعًا في الجاهلية عند تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا
روي الطبري عن مجاهد قال في الربا الذي نهى الله عنه كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدَّيْن فيقول لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه
وعن قتادة أن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه
وعند قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
روى الطبري عن السدي قال نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى أناس من ثقيف
وعن الضحاك قال كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أُمِروا أن يأخذوا رءوس أموالهم راجع الجزء السادس من تفسير الطبري تحقيق محمود محمد شاكر ص وما بعدها
وقال الجصاص الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل، بزيادة على مقدار ما استقرض، على ما يتراضون به أحكام القرآن
وقال في موضع آخر معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلاً بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل، فأبطله الله تعالى وحرمه أحكام القرآن
وقال الفخر الرازي ربا النسيئة هو الأمر الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرًا معينًا، ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حلَّ الدَّيْن طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به تفسير الرازي
وقال ابن حجر الهيثمي ربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا ورأس المال باقٍ لحاله، فإذا حل طالبه برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل الزواجر عن اقتراف الكبائر
وتسمية هذا نسيئة، يصدق عليه ربا الفضل أيضًا؛ لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات
مما سبق نرى أن ربا الجاهلية كان من ربا الديون، وهو ربا النسيئة
والدَّين قد يكون ناشئًا عن بيع آجل، فإذا حل الأجل ولم يدفع المشتري الثمن التزم بدفع زيادة عليه مقابل الزيادة في الأجل، وقد يكون الدين قرضًا مؤجلاً بزيادة مشروطة مقابل الأجل، ويُتفق على هذه الزيادة الربوية من البداية بالتراضي بما يراه كل منهما مصلحة لنفسه
وقد يدفع هذا الربا مقسطًا أقساطًا شهرية، ويظل رأس المال باقيًا، وإذا حل موعد القرض طبقت القاعدة الجاهلية المعروفة إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإما أن يؤدي المقترض، وإما أن يزاد في الدين والأجل
ويظهر الاستغلال والحاجة عند عجز المدين عن أداء الدين، وتطبيق القاعدة الجاهلية، ولكن لا يظهر شيء من هذا إذا لم يعجز المدين، وأدى الدين والزيادة الربوية المتفق عليها، وقد يربح المقترض في تجارته برأس مال المقرض أضعاف الزيادة الربوية، ومع هذا يظل التحريم قائمًا، ويأذن جميع آكلي الربا بحرب من الله ورسوله
فربا الجاهلية إذن لا يظهر فيه الاستغلال والحاجة إلا في صورة من صوره، وهو مثل الفوائد المركبة التي تأخذها جميع البنوك الربوية في عصرنا، ومثل ما يفعله كثير من التجار في البيع بالتقسيط؛ حيث يأخذون زيادة من المشتري عند تأجيل دفع الأقساط عن موعدها المحدد
وقوله تعالى وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ يبين أن أي زيادة على رأس المال مهما قلت أو كثرت تعتبر من الربا المحرم، وهذا الحكم خاص بالمدين الموسر، أما المدين المعسر فيبين حكمه قوله تعالى وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ
الربا في السنة المطهرة
جاءت السنة المطهرة لتؤكد تحريم ربا الديون الذي حرمه القرآن الكريم، وتبين أنه من أكبر الكبائر، ومن السبع الموبقات المهلكات، وأن اللعنة تنزل على كل من يشترك في ارتكابه، ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أن النبي لعن آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال «هم سواء» مسلم وفي مسلم أيضًا «فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء» مسلم
وفقه الحديث الشريف يبين أن أي زيادة ربا محرم، ويستوي في الإثم واللعنة المقرض والمقترض، ولو كان التحريم مرتبطًا بالاستغلال وقصم الظهر فقط كما يقول المجترئون على الفتيا لكانت اللعنة لا تلحق المقترض الفقير، والإثم يرتفع عن المضطر المحتاج
كما كان للسنة دور آخر؛ حيث بينت تحريم ربا البيوع، وهو نوعان ربا الفضل أي الزيادة، وربا النسيئة أي التأجيل والتأخير
ويجمعهما حديث الأصناف الستة المشهور «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يدًا بيد» مسلم فبيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة إلخ يشترط فيه التقابض في المجلس، وعدم الزيادة، فإن كانت هناك زيادة مع القبض فهذا ربا الفضل، وإن لم يتم القبض فهو ربا نسيئة، سواء اشتمل على ربا الفضل أم لم يكن فيه زيادة
أما عند بيع الذهب بالفضة فلا يشترط التساوي، ولكن لا بد من التقابض كما جاء فيما رواه الشيخان «الذهب بالورق أي العملة الفضية ربا؛ إلا هاء وهاء»، أي خذ وهات، فإن لم يتم القبض فهو ربا نسيئة
الإجـمـاع
اختلف الفقهاء فيما يلحق بالأصناف الستة، ويأخذ حكمها في حالة البيع، ويعد من الأموال الربوية، فإذا لم تتوافر الشروط المذكورة آنفًا كان ربا الفضل أو النسيئة، وقد أفتت كل المجامع الفقهية بأن النقود الورقية لها ما للذهب والفضة من الأحكام
والاختلاف هنا إنما هو في حالة البيع فقط، أما في القرض فلا خلاف في تحريم أي زيادة مشروطة في العقد، ولا يقتصر هذا على الأصناف الستة وما يلحق بها، وإنما هو في كل شيء
قال الإمام مالك كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا المدونة
وقال ابن رشد الجد وأما الربا في النسيئة فيكون في الصنف الواحد وفي الصنفين، أما في الصنف الواحد فهو في كل شيء من جميع الأشياء، لا يجوز واحد باثنين من صنفه إلى أجل من جميع الأشياء مقدمة ابن رشد ص
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية «وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء» مجموع الفتاوى
وأهل الظاهر الذي خالفوا الجمهور، فوقفوا عند الأصناف الستة في البيع، لم يخرجوا على الإجماع في القرض قال ابن حزم «الربا لا يجوز أي لا يكون في البيع والسلم إلا في ستة أشياء فقط في التمر والقمح والشعير والملح والذهب والفضة، وهو في القرض في كل شيء» المحلى
وقال «وهذا إجماع مقطوع به»
وقال ابن قدامة «كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف قال ابن المنذر أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا» المغني
إذن فتحريم فوائد القرض ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ومعلوم من الدين بالضرورة
قال الإمام الشيخ محمد أبو زهرة، رحمه الله إن النصوص القرآنية الواردة بالتحريم تدل على أمرين ثابتين لا مجال للشك فيهما
الأمر الأول أن كلمة الربا لها مدلول لغوي عند العرب كانوا يعاملون به ويعرفونه، وأن هذا المدلول هو زيادة الدَّيْن نظير الأجل، وأن النص القرآني كان واضحًا في تحريم ذلك النوع، وقد فسره النبي ، بأنه الربا الجاهلي، فليس لأي إنسان فقيه أو غير فقيه أن يدعي إبهامًا في هذا المعنى اللغوي، أو عدم تعيين المعنى تعيينًا صادقًا، فإن اللغة عينته، والنص القرآني عينه بقوله تعالى وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ
الأمر الثاني هو إجماع العلماء على أن الزيادة في الدَّين نظير الأجل هو ربا محرم ينطبق عليه النص القرآني، وأن من ينكره أو يماري فيه فإنما ينكر أمرًا عُلم من الدين بالضرورة، ولا يشك عالم في أيّ عهد من عهود الإسلام أن الزيادة في الدين نظير تأجيله ربا لا شك فيه.
والله من وراء القصد
وكتبه : د. علي السالوس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق