الجمعة، 12 نوفمبر 2010

الحج المبرور طريق إلى الجنة

الحج المبرور طريق إلى الجنة
د. جمال المراكبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
لا شك أن الحج من أفضل الأعمال بعد الإيمان، وأنه لون من ألوان الجهاد في سبيل الله
روى البخاري في صحيحه بَاب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ  سُئِلَ النَّبِيُّ    أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ  إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ  ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ  جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ  ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ  حَجٌّ مَبْرُورٌ   البخاري   

وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت  يا رسول الله نرى الجهادَ أفضلَ العمل، أفلا نجاهد؟ قال  «لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور»  وفي رواية  «لَكُنَّ أفضل الجهاد  حج مبرور»   رواه البخاري      
وبشر النبي   من حج واجتنب المحظورات ظاهرًا وباطنًا بغفران ذنوبه فقال «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»   البخاري      
وأخبرنا النبي   أن الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ   متفق عليه 
والحج المبرور هو المقبول الذي راعى فيه صاحبه شروط صحة العمل، وشروط قبوله من إخلاص العمل لله تعالى، ومتابعة هدي النبي  ، واجتناب الآثام والأوزار والفسق والرفث
ومن علامات هذا الحج المبرور أن يرجع الحاج خيرًا مما كان، وأن يترك ما كان عليه من التفريط والتقصير والمعاصي، وأن يتبدل بإخوانه البطالين، إخوانًا صالحين، وبمجالس اللهو والغفلة، مجالس الذكر واليقظة
والإخلاص من أصعب الأحوال، وأشق الأعمال خاصة إذا كان العمل باديًا ظاهرًا لا يستطيع المرء أن يخفيه كالحج، فالمسلم قد يصوم يومًا في سبيل الله لا يشعر أحد من الناس بصومه، وقد يصلي في جوف الليل في بيته لا يشعر به أحد، ولكنه لا يستطيع أن يحج بيت الله الحرام دون أن يشعر به أحد، ومن هنا كان الجهد المبذول لتحقيق الإخلاص في الحج، وفي سائر الأعمال الظاهرة، مضاعفًا ممن وفَّقه الله وهداه، ولهذا كان ديدن الصالحين إظهار الزهد والتقشف في الحج، والتعبد لله عز وجل بالتذلل وإظهار الفاقة لله عز وجل، وقد أثر عن النبي   أنه حج على رحلٍ؛ روى البخاري في صحيحه   بَاب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ   عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ   بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ  وهو رحل صغير على قدر سنام البعير  وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ
وعَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ  حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ   حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ   البخاري      
وقوله  ولم يكن شحيحًا إشارة إلى أنه فعل ذلك تواضعًا منه واتباعًا، لا عن قلة، ولا عن بخل
فأين هذا من الحج الذي تدعو إليه بعض شركات السياحة أو حج الفضائيات، وهو الذي يعرف بحج الخمس نجوم إشارة إلي قمة الترف والدعة والرفاهية
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال  حج النبي   على رحل رَثّ، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال  اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة   ابن ماجه وصححه الألباني في الصحيحة، مختصر الشمائل  
    
كيف يكون الحج مبرورًا؟   
ورد البر في النصوص الشرعية بإطلاقين
أولهما  فعل الطاعات كلها من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإعطاء المال للفقراء والمساكين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر على البلاء، كما في قول الله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ   البقرة  
    
والحاج يحتاج إلى هذه الأمور كلها؛ فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان، ولا يكمل حجه ويكون مبرورًا بدون إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن أركان الإسلام بعضها مرتبط ببعض، ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود التي يلتزم بها المسلم
وكذلك يحتاج الحاج إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في سفر الحج؛ فلا يخرجه ذلك عن حسن الصحبة والعشرة لرفقائه
ثانيهما  حسن الخلق، وقد ورد هذا مرفوعًا في صحيح مسلم أن النبي   سئل عن البر فقال   البر حسن الخلق   مسلم ، ولا شك أن حسن الخلق من تمام الإيمان وكماله ومن أفضل العمل الصالح الذي يفضي إلى الجنة، فأكمل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا 
وقد سئل النبي   عن بر الحج فقال   إطعام الطعام، وطيب الكلام، وإفشاء السلام   قال الألباني  حسن بمجموع طرقه  انظر السلسلة الصحيحة وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول   إن البر شيء هين  وجه طليق وكلام لين   أخرجه ابن عساكر موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما   وبالجملة فإنه يشمل معاملة الناس بخلق حسن، وهذا يحتاج إليه الناس في الحج كثيرًا حتى قال بعضهم إنما سُمي السفر سفرًا؛ لأنه يُسْفِر عن أخلاق الرجال
 
جزاء المستجيبين   
لقد جعل الله تبارك وتعالى الحج سبيلاً إلى الجنة؛ لأن الحاج يحقق الاستجابة لله تعبدًا ومعتقدًا وسلوكًا وخلقًا، وجزاء المستجيبين لله ولرسوله لا بد وأن يكون الجنة، وشعار الحجيج  «لبيك اللهم لبيك» تلك الكلمة التي يرددونها ويرفعون بها أصواتهم، يقولها الإنسان إذا دعاه من يحب ويعظّم، فهي كلمة استجابة لمن تحب ومن ترغب وترهب وتعظم إذا دعاك أو ناداك، فتسارع بالإجابة قائلاً  لبيك

أما إذا دعاك من لا تحب، ومن ليس له في قلبك مكانة فإنك تتثاقل عن إجابة دعائه، وربما تمتنع من إجابته
وفي رحلة الحج دعانا من له في قلوبنا كل الحب والرغبة والرهبة، دعانا ذو الجلال والإكرام، فسارعنا ولبينا؛ لأنه سبحانه أحب إلينا مما سواه، وهذا من علامة الإيمان كما في الحديث «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان  أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار»   متفق عليه 
إن من جزاء المستجيبين أن يكفيهم الله ما أهمهم، وأن يدفع عنهم من السوء ما يخافون وما يحذرون، قال تعالى   الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ       الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ  فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ   آل عمران
        
وإن من أعظم جزاء المستجيبين الهدايةَ إلى الجنة، قال تعالى   لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْـحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمِهَادُ   الرعد 
  
إن أعظم ما في الحج أن يعتاد المسلم الاستجابة لله وللرسول عملاً بقوله تعالى   يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ   الأنفال    
ونماذج الاستجابة في الحج كثيرة  فربنا سبحانه وتعالى دعانا لترك الأوطان، والأهل فاستجبنا، دعانا للطواف بالبيت فاستجبنا، مع أن بيوت الله في الأرض كثيرة، ولكن تركنا كل البيوت قاصدين بيته الحرام
دعانا لاستلام الحجر وتقبيله أو الإشارة إليه؛ فاستجبنا مع علمنا أنه حجر لا يضر ولا ينفع، ولكن لأن رسول الله استلمه وقبَّله، وأشار إليه ففعلنا اقتداءً به
دعانا للخروج إلى منى والمبيت بها يوم التروية، فتركنا البيت وتوجهنا إلى منى ملبين مستجيبين
دعانا للوقوف بعرفة فلبينا، دعانا للمبيت بمزدلفة؛ فلبينا، دعانا لرمي الجمار والمبيت بمنى فلبينا، ثم دعانا للطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فلبينا واستجبنا
إن معظم هذه الأعمال لا يستشعر الحاج فيها معنى خاصًّا سوى الاستجابة والتلبية لأمر الله عز وجل والاستسلام لحكمه، فهل نحن في سائر أعمالنا ملبون مستجيبون؟
دعانا لتجريد التوحيد ونبذ الشرك فهل نحن ملبون؟
دعانا للحفاظ على الصلوات فهل نحن ملبون مستجيبون؟
دعانا لبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار وحسن العشرة والمعاملة، فهل نحن ملبون مستجيبون؟
دعانا لترك الحرام والفواحش ما ظهر منها وما بطن فهل نحن ملبون مستجيبون؟
إذا استجبت لله عز وجل في كل ما دعاك إليه فقد حققت بر الحج، ورجعت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فهذا هو الحج المبرور الذي جعل الله ثوابه الجنة
رزقنا الله وإياكم حج بيته الحرام، وأثابنا وإياكم الأجر الجزيل
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق