الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

بيـن ربا الجاهلية وربا البنوك

بيـن ربا الجاهلية وربا البنوك
بقلم فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -
الحمد للَّه رب العالمين ، أتم النعمة ، وأكمل الدين ، وأوضح للناس سبلهم التي عليها يسلكون ، فأنزل كتابـًا حفظه بقدرته ، وبينه بوحيه ، أجمل فيه الحق وفصله ، فما أجمل في موضع ؛ فصله اللَّه سبحانه في مواضع ، لكن من الناس من يُلَبِّسون على الخلق فيرتكبون المحظور الذي حرمه رب العزة سبحانه في قوله : { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ... } [ آل عمران : 7 ] .
هذا ، وإن أوضح قواعد الإسلام حرمة الربا ؛ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين @ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 278، 279 ] فترى من في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه ، فيقولون : إنما حرم اللَّه سبحانه الربا أضعافـًا مضاعفة لقوله في سورة (( آل عمران )) : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ @ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 130، 131 ] ، وإنما ذلك لأن العرب كانوا إذا أجلوا الدين جعلوا الزيادة مضاعفة لا كما يتوهم بعضهم جعلوا الأصل مضاعفـًا ، فبمرور الأعوام يكون الربا أضعافـًا لكل عام ضعف ، فإذا جعلوا في كل مائة عشرة ، فإنها بعد عام آخر تصبح عشرين ، ثم ثلاثين .. وهكذا - وليس أن تكون المائة مائتين ، ثم ثلاثمائة في كل عام ضعفـًا لأصل المال - وهذا عين الربا الذي تقوم به البنوك الربوية اليوم .
وإن المجامع الفقهية المعاصرة قررت بالإجماع حرمة الربا الصادر من البنوك الربوية ، ومن أكبرها وأقدمها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بمصر ، والذي انعقد مؤتمره الأول في سنة 1384 هـ بحضور جمع كبير من علماء أجلاء من كل العالم الإسلامي ، وقد جاء في قراراته :
إن السبيل لمراعاة المصالح ومواجهة الحوادث المتجددة هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك ، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به فالاجتهاد الجماعي المذهبي ، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق ، وينظم المجمع وسائل الوصول إلى الاجتهاد الجماعي بنوعيه ليؤخذ به عند الحاجة .
الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالاستهلاكي أو الإنتاجي.
الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة ، والاقتراض بالربا محرم كذلك ، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة .
فتدبر أيها القارئ الكريم هذه الفقرة التي جاءت في قرارات المجمع منذ ستة وثلاثين عامـًا ، فهي أساس عمل المجمع .
وفي سنة 1385 هـ عقد المجمع مؤتمره الثاني بحضور مئات العلماء من جميع بلدان المسلمين ، وجاء في قراراته ما يلي : أ- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي ؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين . ب- كثير الربا وقليلة حرام ، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً . ج- الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة ، والاقتراض بالربا محرم كذلك ، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة(1) . اهـ . من قرارات مجمع البحوث الإسلامية .
هذا ، وقد لمست إن بعض الكُتَّاب والواعظين تخيلوا صورة لربا الجاهلية ، ثم حدثوا الناس بها ، حتى ظن بعض من سمعهم أن ذلك هو حقيقة الواقع ، حيث زعموا أن الربا الذي كان محرمـًا في الجاهلية إنما هو ربا اقتراض الفقراء من الأغنياء ، وأنهم كانوا يقترضون لينفقوا على مطعمهم وملبسهم وحاجاتهم اليومية ، ورتبوا على ذلك أن الربا في القروض الإنتاجية والذي يكون الطرف المقترض فيه غنيـًّا ليس هو الربا المحرم .
وهذا كلام يخالف الشرع في حكمه ، والواقع في وضعه ، وليس له من مستند تاريخي ولا من تدبير عقلي اقتصادي . وفي ذلك نتدبر أن العرب في الجاهلية لم تكن حاجاتهم الأساسية بالتي تعجز عنها نفقة المحسنين منهم ،
وذلك للأسباب الآتية :
أ- أن حاجة الإنسان في ملبسه ( إزار ) ، فإن زاد ( فرداء مع الإزار ) ، ولم يكن لكلهم إزار ورداء ، فضلاً عن أن يكون له ملبوس على بدنه ، وآخر محفوظ في بيته ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : (( أَوَ لكلكم ثوبان )) .
ب - أن اشتهار العرب بالبذل والكرم والعطاء يأبى أن ينسجم في فهمه مع وجود الفقراء والمحتاجين مجاورين لأصحاب الأموال من المرابين ولا يطعمونهم ، فإن العرب كانت تفخر بإطعام الطير ، فكيف لا تُطعم الإنسان ؟!
جـ - علمنا بنص خطبة حجة الوداع أن من المرابين في الجاهلية ( العباس بن عبد المطلب ) ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : (( ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله ، وأول ربا ابدأ به ربا عمي العباس )) .
والنبي صلى الله عليه وسلم يصف العباس هذا بما أخرجه أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفـًّا وأوصلها )) .
والحديث صححه الشيخ أحمد شاكر ، وقد جاء الحديث في (( المستدرك )) من عدة طرق .
ومعلوم أن العباس كان غنيـًّا ذا مال وفير ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم طالبه بأن يفدي نفسه يوم بدر ويدفع فداء ابني إخوته عقيل ونوفل ، ويفدي حليفه عتبة بن عمر ، ولم يحسب من ذلك عشرين أوقية كانت معه أخذها منه المسلمون في المعركة ، فقدم فداء أربعة يوم بدر ، فكان العباس ذا مال ، وكان صاحب جود وصلة ، وكان يعامل الناس بالربا في الجاهلية .
د - أن أصحاب رءوس الأموال يحرصون عليها وعلى تنميتها ، فإن أقرضوا المعدمين بربا عجز عن السداد ولا بد ، فكيف يضاعف عليه عامـًا بعد عام وهو مفلس ، وذلك يعني أن تضيع أموال أصحاب رءوس الأموال ، وهذا ما يعرفه الاقتصاديون أنه لا يتناسب مع انتظام الأسواق ؛ لأن الفقير مفلس بوضعه ، وصاحب رأس المال يجتهد في اختيار المكان الذي يضع فيه ماله خوفـًا من الخسارة ، فضلاً عن الإفلاس ، وطمعـًا في الربح ، فلا يقرض صاحب المال ، إلا أن يأخذ الضمان الكافي الذي يحقق له عدم ضياع ماله ، وهذا ما تعمله البنوك اليوم ، وهو من بدهيات الاقتصاديين ، فكيف نتصور أن القروض الربوية في الجاهلية كانت للفقراء المعدمين .هـ أن الأموال التي كانت في يد الناس من قريش كانوا يرتادون بها الأسواق ليتاجروا بها ، ولكن ليس كل صاحب مال يجد عنده المقدرة في الاتجار بالمال ؛ لذا فإنه يعهد به إلى غيره ليضارب له فيه ، وإن قصة خديجة - رضي اللَّه عنها - وقصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم بمالها مشهورة ومعلومة ، فكان التجار يخرجون بأموال الناس يتجرون فيها ، وقصة تجارة أبي سفيان التي كانت سببـًا في غزوة بدر ، بل وغزوة أُحد أيضـًا ، إنما كانت في تجارة أبي سفيان بأموال قريش جميعها من أصحابها يتجر لهم فيها .
فيُفهم من ذلك أنهم كانوا يعهدون بأموالهم للأغنياء يتاجرون فيها لهم ، ونفهم أيضـًا أن منهم من كان يتاجر معهم مضاربة في البيع والشراء على نصيب من الكسب يقتسمونه ، وأن منهم من كان يأخذ أموالهم يتاجر فيها على نسبة معلومة منها ، وذلك هو الربا ؛ لذا حكى القرآن الكريم عنهم في هذه الآية : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [ البقرة : 275 ] ، فكأن المعاملة كانت تتم في حالة واحدة ؛ يأخذ التاجر أموال هؤلاء يبيع بها بيع المضاربة ، أو يبيع بها بيع الربا .
وهذا يدلنا على أن الفقراء كانوا يقرضون الأغنياء ليتاجروا ، طامعين في أن تكسب أموالهم إما بالمضاربة ، أو الربا ، فأصحاب الأموال القليلة ( الفقراء ) هم المقرضون والتجار الأغنياء هم المقترضون ، فتنبه .
وفي ذلك يقول القرطبي في (( المُفهم )) عند شرح حديث : (( وربا الجاهلية موضوع )) : كانت لهم بيوعات يسمونها بيع الربا ، منها : أنهم كانوا إذا حل أجل الدين يقول الغريم(2) لرب الدين : أنظرني وأزيدك ، فينظره إلى وقت آخر على زيادة مقررة ، فإذا حل ذلك الوقت الآخر قال له أيضـًا كذلك ، وربما يؤدي ذلك إلى استئصال مال الغريم في نذر يسير كان أخذه في أول مرة ، فأبطل اللَّه ذلك وحرمه ، وتوعد عليه بقوله : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] ، وردهم إلى رءوس أموالهم ، وبلَّغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك قرآنـًا وسنة ، ووعظ الناس وذكرهم بذلك في ذلك الموطن(3) مبالغة في التبليغ ، وبدأ صلى الله عليه وسلم بربا العباس لخصوصيته بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ليقتدي الناس به قولاً وفعلاً ، فيضعون من غراماتهم ما كان من ذلك . ( انتهى من (( المفهم ).
وذكر ابن عباس : أن الجوع أصاب بعض قريش ، فقام فيهم هشام بن عبد مناف خطيبـًا ، فقال : إنكم أجدبتم جدبًا تقلون فيه وتذلون ، وأنتم أهل حرم اللَّه وأشراف ولد آدم ، والناس لكم تبع ، فقالوا : نحن تبع لك ، فليس عليك منا خلاف ، فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام للتجارات ، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير ، حتى كان فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش .
قال الشاعر فيهم :
الخالطيـن فقيـرهم بغنيهم حتى يكون فقيرهم كالكافي
فهذه عادة التكافل بين العرب من فك العاني وإطعام الجائع ، والتي كانوا يمدح بعضهم بها ويفخرون بها تتنافى تمامـًا مع ما يدعيه المدعون أن ربا الجاهلية ربا استهلاكي يأخذ فيه الفقراء من الأغنياء حتى يشتد عليهم الحال فيعجز عن السداد .
لذا كتبت تلك الكلمات رغبة في توضيح حقيقة ربا الجاهلية ، وبيانـًا ليعلم أن المجامع الفقهية التي أجمعت على حرمة ربا البنوك ما كانت غافلة عن نوع الربا اليوم ، وقد أنعم اللَّه علينا بعدد من علماء الإسلام ورجالهم يجاهدون للتخلص من الربا ، ولهم في ذلك ثمار جيدة ؛ من أهمها ظهور البنوك الإسلامية ، والتي يحاول العلمانيون وأشياعهم محاربتها والتضييق عليها .
واللَّه غالب على أمره ، وعليه فليتوكل المتوكلون .
وكتبه : محمد صفوت نور الدين
(1) انظر - رعاك اللَّه - كيف أنه حرم على المقرض أن يقرض بالربا ، فلا يباح له فعله لا في حاجة ولا في ضرورة ، ولكنه قال عن المقترض : إنه لا يرفع الإثم إلا إذا دعت الضرورة ، والضرورات خمس : هي ما يهدد : الدين ، والنفس ، والعرض ، والمال ، والعقل . فقطع بذلك السبيل على دعاوى المستحلين للربا المتأولين له ، والحمد للَّه رب العالمين .(2) والغريم هنا هو ذلك التاجر الذي يرى المال يربح عنده أو وقع في ضائقة ويرجو أن يقوم منها ليسدد ما عليه ، ولا يتصور أبدًا أن يكون فقيرًا معدمـًا يطعم أهله بمال الربا ، فهذا هو ربا الجاهلية .(3) أي في حجة الوداع في اجتماع الناس يوم عرفة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق