الاثنين، 17 أغسطس 2009

رمضان شهر التقوى

‏رمضان شهر التقوى

بقلم فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -

يقول الله سبحانه وتعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ‏الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة : 183] .‏

فالصيام من أكبر أسباب التقوى ؛ لأن فيه امتثال أمر الله تعالى واجتناب نهيه ، ‏فمما اشتمل عليه من التقوى أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب ‏والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه متقربًا بذلك إلى الله راجيًا بتركها ثوابه ، ‏فهذا من التقوى .‏

ومنها أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته ‏عليه لعلمه باطلاع الله عليه .‏

ومنها أن الصيام يضيق مجاري الشيطان ، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم ، ‏فبالصيام يضعف نفوذه وتقل منه المعاصي .‏

ومنها أن الصائم - في الغالب - تكثر طاعته ، والطاعات من خصال التقوى .‏

ومنها أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقير المعدم ، وهذا من ‏خصال التقوى .‏

فإذا كان الأمر بالصوم خاصًّا بالمؤمنين مقارنًا ذلك بأن الله افترضه على الذين من ‏قبلهم حتى ينافسوهم في الخيرات ، فإن الله سبحانه يأمر الناس جميعًا بالأمر ‏العام مكلفًا إياهم بالعبادة التي هي امتثال لأوامر الله سبحانه ، واجتناب لنواهيه ‏‏، وتصديق لخبر رسوله الذي بعثه ، ويقول سبحانه : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ‏رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) [ البقرة : 21] ، ولذلك خلقهم ‏‏: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56] ، وهو ربهم الذي ‏رباهم بأنواع النعم ، فخلقهم بعد عدم ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، ‏فجعل لهم الأرض فراشًا يستقرون عليها ويبنون ويزرعون ، وخلق لهم كل شيء ، ‏ثم علل ذلك بقوله : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) .

‏وقد وردت التقوى بمادتها في القرآن الكريم في قرابة ثلاثمائة موضع من الكتاب ‏الكريم ، حتى يمكن أن يقال : إن الغاية من رسالة الإسلام ، بل ومن جميع ‏الأديان هي تحصيل التقوى .

‏حيث يقول القرآن الكريم على لسان نوح وهود ولوط وشعيب ، كل نبي يخاطب ‏قومه بقوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) [ آل عمران : 50] ، ولقد بينت آيات القرآن ‏الكريم أثر التقوى ؛ فمنها آثار يجعلها الله للعبد في الدنيا منها : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ‏يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) [ الطلاق : 4] ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ ‏مَخْرَجًا(2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) [ الطلاق : 2 ، 3] .

‏ومنها قوله عز وجل : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) [ البقرة : 282] ، وقوله ‏سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون ) [ النحل : 128] .‏ومنها ما يجعله الله للعبد في الآخرة ، فبها تفتح أبواب الجنة : ( وَسِيقَ الَّذِينَ ‏اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ‏سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِين ) [ الزمر : 73] .

‏والتقوى تزيل الخوف وتجلب الأُنس في الآخرة : ( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ‏عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67)يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)الَّذِينَ ءَامَنُوا ‏بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69)ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) [ الزخرف : ‏‏67 - 70] .

‏ويقول سبحانه : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏‏) [ القمر : 54 ، 55] .‏وتقوى الله عز وجل دافع للعبد أن يعمل الخير وأن يجتنب الشر ؛ لذا كان النبي ‏صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه بالحث على التقوى بقوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ‏ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 102] ، ( ‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ ‏مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ ‏رَقِيبًا ) [ النساء : 1] ، ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا ‏سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ ‏فَوْزًا عَظِيمًا ) [ الأحزاب : 70 ، 71] .

‏فكانت تقدم هذه الآيات بين يدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الخطب ، ‏فتحث السامع على سرعة الإقدام للعمل بالصالحات واجتناب السيئات ، وكذلك ‏يذكر المولى سبحانه في اجتناب الشرور أن الدافع له تقوى الله سبحانه ، كقوله ‏تعالى : ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) [ البقرة : ‏‏282] .

‏وكقوله سبحانه : ( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) [ مريم : 18] ، ‏وقوله سبحانه : ( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ) [ البقرة : 283] ، ‏فإن التقوى مانع من بخس الحق أو إضاعة الأمانة أو التعدي على حرمات النساء ، ‏بل إن الله سبحانه ليقول ذلك في قوله تعالى : ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ ‏تَقْوَى الْقُلُوبِ ) [ الحج : 32] .‏وفي حديث الثلاثة الذين مالت صخرة فسدت عليهم فوهة الغار ، تقول المرأة لابن ‏عمها الذي تمكن منها : اتق الله ، ولا تفض الخاتم إلا بحقه . فقام عنها وتركها .‏

ولذا كانت الوصية بها من الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما قالوا : يا رسول ‏الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ) .‏هذا ، وإن مفهوم التقوى في مفتتح سورة ( البقرة ) ، يقول سبحانه : (الم(1) ذَلِكَ ‏الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا ‏رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ ‏يُوقِنُونَ(4)أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) [ البقرة : 1 - 5] .‏

وبينها ربنا سبحانه وتعالى في قوله : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ‏وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ‏وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا ‏عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ‏الْمُتَّقُون ) [ البقرة : 177] .

‏فهذا شهر رمضان الذي قال عنه سبحانه وتعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ ‏الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ‏‏[ البقرة : 185] ، وظهر أثر الصوم عليه في إخلاصه لربه ؛ لذا يقول ربنا في آيات ‏الصيام : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ‏فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ) [ البقرة : 186] .‏

ويقول سبحانه بعد آيات الصيام معقبًا عليها ، كأنها نتيجة لها : ( وَلَا تَأْكُلُوا ‏أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ ‏وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 188] ، فمن ترك الطعام الحلال لله في نهار رمضان ، ‏تعلم التقوى ، فلم يأكل أموال الناس بالباطل بالرشوة عطاءً أو أخذًا .‏فهذا رمضان شهر معالجة أدواء النفوس وجمع القلوب ووحدة الصف وهجران ‏المعاصي ولزوم الطاعات ، فليتق الله دعاة الباطل والشر ، ولتنظر نفس ما قدمت لغد ‏‏، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول حاكيًا عن جبريل قوله : ( بَعُد من أدرك ‏رمضان ولم يُغفر له ) ، ذلك لواسع فضل الله سبحانه وعظيم عطائه ومغفرته في هذا ‏الشهر الكريم .‏فاللهم نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب ‏إليها من قول وعمل .‏

والله من وراء القصد .‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق