فتوى في القيام للقادم لشيخ الإسلام ابن تيمية ( رحمه الله )
سُئل شيخُ الإسلام أوحد الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه : ·
س : ما تقول السادةُ العلماء أئمة الدين ، رضي الله عنهم أجمعين ، في النهوض والقيام الذي يعتاده الناسُ من الإكرام عند قدوم شخص معين مُعْتَبَر ؟ وهل يجوز أم لا عند غلبة ظن المتقاعدِ عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطنه وربما آل ذلك إلى بُغْضٍ ومَقْتٍ وعداوة ؟ فإن فعل رجلٌ ذلك عادةً وطبْعًا ليس في قصدٍ هل يحرم أم لا ؟
ج : لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كما يردون على السلام ، كما يفعل كثير من الناس ، بل قد قال أنس بن مالك ، رضي الله عنه : لم يكن شخصٌ أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له ، لِمَا يعلمون من كراهته لذلك ، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيًّا له ، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعِكرِمة ، وقال للأنصار لما قدم سعد بن عُبادة : ( قوموا إلى سيدكم ) ، وكان سعد متمرضًا بالمدينة ، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة .
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنهم خير القرون ، وخيرُ الكلام كلام الله ، وخيرُ الهدي هدي محمد ، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق وهدي خير القرون إلى ما هو دونه ، وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له ولا يقوم لهم إلا في اللقاء المعتاد .
فأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيًا له فحسنٌ ، وإذا كان عادة الناس إكرام المجيء بالقيام ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخسٌ في حقه ، وقصدٌ لخفضه ، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة ، فالأصلح أن يُقام له ؛ لأن ذلك إصلاحٌ لذات البين وإزالة للتباغض والشحناء .
وأما مَنْ عَرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له ، وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار ) ، فإن ذلك أن يقوموا وهو قاعد ، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء ، ولهذا فرّقوا أن يقال قمتُ إليه وقمتُ له ، والقائم للقادم ساواه للقاعد ، وقد ثبت في ( صحيح مسلم ) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدًا في مرضه وصلوا قيامًا أمرهم بالقعود ، وقال : ( لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضًا ) ، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد ؛ لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعودٌ .
وجماع ذلك أن الذي يصلح اتباع عادة السلف وأخلاقهم والاجتهاد بحسب الإمكان ، فمن لم يعتد ذلك أو لم يعرف أنه العادةُ ، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مفسدةٌ راجحة ، فإنه يُدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم المصلحتين بتفويت ، أدناهما .
وأما الانحناء عند التحية فينهى عنه كما في الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سألوه عن الرجل يلقى أخاه أينحني له ؟ قال : ( لا ) .
ولأن الركوع والسجود لا يجوز فعله إلا لله ، وإن كان هذا على وجه التحيَّة في غير شريعتنا ، كما قال في قصة يوسف : ( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ) [ يوسف : 100] ، وفي شريعتنا لا يصلح السجود إلا لله ، بل تقُدّم نهيُه عن القيام كما تفعل الأعاجم بعضها ببعض ، فكيف بالركوع والسجود ؟وكذلك ما هو ركوعٌ ناقصٌ يدخل في النهي عنه .
والله أعلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق