من مفردات القرآن الكريم : "الحمد للَّه" 2
بقلم فضيلة الشيخ : محمد جميل غازي - رحمه الله -
رئيس قسم التراث العربي بالمجلس الأعلى للفنون والآداب سابقاً
والرئيس الأسبق لجمعية العزيز بالله
**********
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ .الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ .صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ سورة الفاتحة ] .
تحدثت - في مقال سابق - عن مادة (( الحمد )) في القرآن الكريم ، وعن معناها ، ومرات ورودها ، والسور التي افتتحت واختتمت بها .
واليوم ؛ نلتقي حول (( سورة الحمد )) نتأمل وجهها الكريم ، ونقتبس من آياتها الحكمة ، ونلتمس من معانيها الموعظة .
و(( سورة الحمد )) سورة جامعة لأبواب الخير ، مرشدة لأصول البر ...
فقد جاء مأثورًا عن الحسن البصري - فيما يرويه عن ابن ماجه وغيره ؛ (( أن اللَّه أنزل مائة كتاب وأربعة كتب . جمع علمها في الأربعة ، وجمع علم الأربعة في القرآن ، وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في أمر القرآن ، وجمع علم أم القرآن في هاتين الكلمتين الجامعتين : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . [ج 13 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص 7 . ] .
وهي سورة ذات أسماء كثيرة - منها :الحمد ، والصلاة ، والفاتحة ، وأم الكتاب ، وأم القرآن والمثاني .
قال تعالى : { الحمد لله } .
ولم يذكر سبحانه لحمده (( ظرفًا مكانيًا )) ، ولا (( زمانيا )) .وذكر في (( سورة الروم )) أن من ظروفه المكانية : (( السموات والأرض )) ، حيث يقول : { وله الحمد في السموات والأرض } [ الروم : 18 ] .
كما ذكر في (( سورة القصص )) أن من ظروفه الزمانية : (( الدنيا والآخرة )) . [ أضوء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للعلامة محمد الأمين الشقنطي ] .
حيث يقول : { وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ } [ القصص : 70 ] .
والألف واللام - في قوله : { الحمد } . لاستغراق جميع المحامد في جميع الظروف والأحوال : وعلى جميع النعم جليلها وخفيها .
و { الحمد لله } كلمة لها فضلها وأجرها : ولذلك افتتح الله بها كتابه ، وأمر بها أحبابه ، فقد روى مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها )) .
وقال الحسن : (( ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها )) .
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : (( الحمد لله )) إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ )) .
وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان اللَّه والحمد لله تملآن - أو : تملأ - ما بين السماء والأرض )) .
* * *
وقال تعالى : { رب العالمين } .- والرب يطلق على السيد المطاع ، وعلى المصلح ، وعلى الملك .
فهو صفة مشبهة ، ويجوز أن يكون مصدرًا بمعنى التربية .
والرب - بالألف واللام - لا يقال إلا للَّه عز وجل .
- والعالمين - جمع عالم ؛ وهو : كل موجود سوى الله تعالى .
ويدل لذلك قوله تعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } .
- وقد يطلق لفظ (( العالمين )) ويراد به (( الإنس والجن )) فقط ، وذلك في مجال الحديث عن عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عباس : العالمون : الجن والإنس ؛ لقوله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1 ] .
قال : ولم يذكر نذيرًا للبهائم .
وقال بعض العلماء : واشتقاق العالم من العلامة ؛ لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفًا بصفات الكمال والجلال ، قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ } [ الأعراف : 190 ] .
والآية - في اللغة - العلامة .
وقال تعالى : { الرحمن الرحيم } .وهما من أبنية المبالغة ، و(( الرحمن )) أبلغ من (( الرحيم )) ؛ لأن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى كما هو معروف في علم الاشتقاق .
- (( والرحمن )) ، خاص بالله سبحانه وتعالى ، فلا يسمى به غيره ولا يوصف ، بخلاف و(( الرحيم )).
وفائدة الجمع بين الصفتين (( الرحمن )) و (( الرحيم )) الإخبار عن رحمة عاجلة وآجلة ، خاصة وعامة .ثم ؛ إن (( الرحمن )) دال على الصفة الثائمة به سبحانه ، و (( الرحيم )) دال على تعلقها بالمرحوم : فكان الأول للوصف ، والثاني للفعل .
فالأول : دال على أن الرحمة صفته .
والثاني : دال على أنه يرحم خلقه برحمته .وهذا هو سر قوله تعالى : { وكان بالمؤمنين رحيمًا } [ الأحزاب : 43 ] .
{ إنه بهم رءوف رحيم } [ التوبة 117 ] ، ولم يجيء قط رحمن بهم .
وتنقسم الرحمة إلى قسمين : قسم مشترك عام بين المسلم والكافر ، والبر والفاجر ، والبهائم ، وسائر الخلق ، ودليلها { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] ، وقوله : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا } [ غافر : 7 ] .
وقسم خاص بأنبيائه ورسله وأوليائه وعباده الصالحين ودليله قوله تعالى : { وكان بالمؤمنين رحيمًا } [ الأحزاب : 43 ] .
وقوله :{ إنه بهم رءوف رحيم } [ التوبة : 171] .
وقال تعالى : { مالك يوم الدين } .وقد بين الله يوم الدين بقوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ . ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ . يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
- والمراد بالدين : الجزاء ؛ لقوله تعالى : { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } [ النور : 25] ، أي جزاء أعمالهم بالعدل .
ولا يجوز أن يتسمى أحد بهذا الاسم ، ولا يدعى به إلا الله تعالى . وكذلك لا يجوز أن يتسمى أحد بـ (( ملك الملوك )) ، أو (( شاهنشاه )) ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟ )) .
وعنده - أيضًا - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أخنع اسم عند اللَّه رجل تسمى الأملاك - زاد مسلم - لا مالك إلا اللَّه عز وجل )) .
قال سفيان : وكذلك شاهنشاه ، ومعناها : ملك الملوك .
وقال تعالى : { إياك نعبد إياك نستعين } .
والعبادة ، لغة الذل ، عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية بأنها : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأوقال والأعمال الظاهرة والباطنة .
وقيل : إن العبادة غاية الذل مع غاية الخضوع .
والاستعانة : طلب العون والمدد ، وذلك لا يكون إلا من اللَّه وحده ، فيما لا يقدر عليه إلا اللَّه وحده .أما استعانة المخلوق ، فهي كاستعانة الغريق بالغريق .
ويقول ابن القيم رحمه اللَّه حول قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } : كثيرًا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول :{ إياك نعبد } تدفع الرياء .و { إياك نستعين } تدفع الكبرياء .
ويقول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في رسالته القيمية : (( بعض فوائد سورة الفاتحة )) .
{ الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين } تضمنت ثلاث آيات ثلاث مسائل :
الآية الأولى : فيها المحبة : لأن اللَّه منعم ، والمنعم يحب على قدر إنعامه .
والآية الثانية : فيها الرجاء .
والآية الثالثة : فيها الخوف .
وقوله تعالى : { إياك نعبد } أي : نعبدك يا رب بما مضى ؛ بهذه الثلاث : بمحبتك ، ورجائك ، وخوفك .
ثم يقول : (( فهذه الثلاث أركان العبادة ، وصرفها لغير الله شرك )) .
وقال تعالى : { اهدنا } .
والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً .
وقد جاءت مادة الهدى في القرآن الكريم لعدة معان :
الأول : ما منحه الله للعبد من القوى التي توصله إلى مصالحه : كالحواس الخمس ، والعقل ، قال تعالى : { إنا هديناه السبيل } [ الإنسان : 3 ] ، وقال : { وهديناه النجدين } [ البلد : 120 ] ، وقد منح الله بعض هذه القوى للحيوانات وغيره : { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] ، { الذي قدر فهدى } [ الأعلى : 3 ] .
الثاني : بعثة الأنبياء والرسل : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا } [ السجدة : 24 ] ، { ولكل قوم هاد} [ الرعد : 7 ] .
الثالث : ما يوليه الله لصالحي عباده بما اكتسبوا من الصالحات : { وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد } [ الحج : 24 ] ، { أولئك الذين هدى الله فبهدهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] .
الرابع : التمكين من الجنة : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [ الأعراف : 43 ] .
فدعاؤنا وطلبنا للهداية ، معناه :
- أن يوفق الله حواسنا ومشاعرنا للسير في طريقه .
- وأن يعيننا على اتباع نبيه ، والاقتداء بسنته .
- وأن يعصمنا من الشبهات ، ويحفظنا من الشهوات .
- وأن يرزقنا الجنة ، مع المنعم عليهم .
* * *
وقال تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } .
والصراط المستقيم ، هو : الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله ، وجلعه موصلاً لهم إليه ، ولا طريق لهم سواه ، وهو : إفراده - تعالى - بالعبادة .
وإفراد رسله - عليهم صلوات الله وسلامه - بالاتباع والطاعة .
والصراط المستقيم ليس طريقًا موحشًا .
وإنما هو طريق كثر سالكوه منذ بدء الخليفة إلى اليوم ، وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين .
لكن ؛ قد تعتري هذا الطريق فترات يقل سالكوه ، والسائرون فيه ؛ فلا ينبغي للمؤمن أن يستوحش من مواصلة المسير ، فإن إخوانًا طيبين ، سبقوه بإحسان ، { وحسن أولئك رفيقًا } .
قال بعض السلف : (( عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلةا لسالكين ، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين )) .
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يدخله في زمرة المهتدين : (( اللهم اهدني فيمن هديت )) .
والعبد - دائمًا - في حاجة إلى هداية الله ، ولذلك كان من الحتم أن يكرر هذا الدعاء في كل ركعة من ركعات الصلاة ؛ إذ أنه لا نجاة من العذاب ، ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية ومن فاتته فهو ؛ إما من المغضوب عليهم وإما من الضالين .
ولسائل أن يسأل :- إن الله هدى المؤمنين إلى الصراط المستقيم ، فلماذا يدعونه به ؟
ولنا أن نجيب بجوابين :
الأول : أن المطلوب هو الدوام عليه .
الثاني : أن معنى (( الصراط المستقيم )) : أن يفعل العبد في كل وقت ما أمر به في ذلك الوقت من علم وعمل ، ولا يفعل ما نهى عنه ، وهذا يحتاج - في كل وقت - إلى أن يعلم ويعمل ما أمر به في ذلك الوقت وما نهي عنه ، وإلى أن تحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور ، وكراهة جازمة تعينه على ترك المحظور .
وقد قال اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبة وبيعة الرضوان -: { إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا } - إلى قوله-: { ويهديك صراطًا مستقيمًا } ؛ فإذا كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته أو قريبًا منها - فما بالك بغيره المؤمنين ؟
(( وصرط الله )) : واحد لا تعدد فيه .
مستقيم لا التواء فيه .
واضح لا غموض يعتريه .
يقول ابن مسعود رضي اللَّه عنه : (( خلط لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطًا ، وقال (( هذا سبيل اللَّه )) ، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن يساره ، وقال : (( هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه )) - ثم قرأ : { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 1853 ] )) .
* * *
l وقال تعالى : { صراط الذين أنعمت عليهم } .
والذين أنعم اللَّه عليهم هم المذكورون في قوله تعالى : { فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 ] .l وقال تعالى : { عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } .
وفائدة هذا الاستثناء : أن الكفار قد شاركوا المؤمنين في كثير من (( النعم العامة )) ، فبين - سبحانه - أن المقصود بالدعاء (( النعم الخاصة )) كالهداية والجنة .l و { المغضوب عليهم } ، الذين علموا ولم يعملوا .
و{ الضالون } الذين عملوا بلا علم .ومن هنا نعلم أن { المنعم عليهم } هم الذين علموا وعملوا ، جعلنا اللَّه منهم ، وحشرنا معهم .
ونعوذ باللَّه أن نذكر به وننساه .
محمد جميل غازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق