مناظرة في رفع اليدين في تكبيرات الجنازة
بقلم فضيلة الشيخ / وحيد عبد السلام بالي
قضية رفع اليدين مع تكبيرات الجنازة من القضايا الخلافية ، وقد كنت قديمًا أقول بعدم الرفع استدلالاً بحديث ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود ، ثم تبين لي ضعفه ، فبحثت الموضوع بشيء من الاستقصاء ، ثم اختصرته في هذه المناظرة ، وهذه الطريقة استقيتها من كتاب شيخ شيوخنا الشيخ عبد الرحمن السعدي ، رحمه الله ، ومن قبله ابن القيم ، رحمه الله .
والمناظرة هاكم نصها :
قال أبو الفضل :الأولى للمسلم أن يرفع يديه مع تكبيرات الجنازة ؛ لأن ذلك وارد عن بعض الصحابة ، رضوان الله عليهم ، والعمل بقول الصحابي عند عدم وجود الدليل المرفوع أولى من الأخذ بالرأي ، لا سيما إذا لم يعارضه قول صحابي آخر .
قال أبو المجد : بل الأولى للمسلم أن لا يرفع يديه مع تكبيرات الجنازة إلا مع التكبيرة الأولى فقط ، ثم يضع اليمنى على اليسرى ولا يرفع يديه بعد .
قال أبو الفضل : وهل هناك دليل على ذلك يا أخي ؟
قال أبو المجد : نعم هناك دليلان مرفوعان ، وآخران موقوفان .
قال أبو الفضل : هات هذه الأدلة .
قال أبو المجد : أولاً ؛ حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، الذي رواه الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع يده اليمنى على اليسرى .
فهي دليل صريح على عدم الرفع فيما عدا التكبيرة الأولى .
قال أبو الفضل : نعم هو صريح في عدم الرفع كما ذكرت إن صح إسناده ، ولكن إسناده ضعيف جدًا لا تقوم به حجة .
قال أبو المجد :وما سبب ضعفه ؟
قال أبو الفضل : هذا الحديث أخرجه الترمذي (3 / 388 شاكر) ، والدارقطني (2/75) ، والبيهقي (4/38) من طريق يحيى بن يعلى ، عن يزيد بن سنان ، عن زيد بن أبي أنيْسة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة به .
وهذا إسناد ضعيف جدًا فيه ثلاث علل :
الأولى : يحيى بن يعلى الأسلمي ضعيف .
الثانية : يزيد بن سنان التميمي ضعيف .
الثالثة : الاضطراب ، فإنه قد روي على ثلاثة أوجه :
الوجه الأولى : يحيى بن يعلى عن يزيد بن سنان عن زيد بن أبي أنيسة عن الزهري به ، وهذا الوجه رواه الترمذي (1077) ، والدارقطني (2/75) ، والبيهقي (4/38) .
الوجه الثاني : يحيى بن يعلى عن يزيد بن سنان عن الزهري به ؛ أخرجه الدارقطني (2/74) ، وابن عدي (7/271) ، فأسقط زيد بن أبي أنيسة .
الوجه الثالث : يحيى بن يعلى عن يونس بن خباب عن الزهري به ، ذكره المزي في (التحفة) (10/9) ، ورواه أبو الشيخ في (طبقات المحدثين بأصبهان) (4/258) من هذا الطريق ، فتبين لك الآن أن الحديث ضعيف جدًا لا تقوم به حجة في الفضائل ، فضلاً عن الأحكام التي نحن بصددها .
قال أبو المجد : جزاك الله خيرًا يا شيخ ، لقد أوقفتني على علل عزيزة في هذا الحديث ، ولكن تتوقع ممن يكون هذا الاضطراب في الإسناد ؟
قال أبو الفضل : الظاهر ، والله أعلم ، أن يكون الاضطراب من يحيى بن يعلى الأسلمي ؛ لأن البخاري ، رحمه الله ، قال فيه : مضطرب الحديث ، وقال البزار ، رحمه الله : يغلط في الأسانيد .
قلت : فلعل هذا من أغلاطه .
قال أبو المجد : هل تسمح لي يا شيخ أن أسرد لك باقي الأدلة .
قال أبو الفضل : تفضل يا أخي الكريم ، بارك الله فيك .
قال أبو المجد : ما جاء عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ، ثم لا يعود ، رواه الدارقطني (2/75) .
قال أبو الفضل :هذا الحديث رواه الدارقطني (2/75) ، والعقيلي (3/ 449) من طريق الفضل بن السكن الكوفي ، حدثنا هشام بن يوسف عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس به .
وهذا إسناد ضعيف فيه علتان :الأولى : الفضل بن السكن مجهول ، قال عنه الذهبي في (الميزان) (3/352) : لا يعرف ، وضعفه الدارقطني .
الثانية : الاضطراب بين الرفع والوقف ، فقد جاء على وجهين :
الوجه الأول : الفضل بن السكن الكوفي ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس (مرفوعًا) عند الدارقطني (2/75) والعقيلي (3/ 449) .
الوجه الثاني : إبراهيم بن موسى الفراء عن هشام بن يوسف عن معمر عن بعض أصحابه عن ابن عباس من فعله (موقوفًا) .هكذا رواه العقيلي (3/449) ، وهو عند عبد الرزاق (3/470) عن معمر به سواء .
فالحديث ضعيف لا تقوم به حجة ، ولذلك ضعفه الحافظ في (التلخيص الحبير) (2/291) ، ومن هنا يتبين لنا أنه لم يصح حديث مرفوع إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه كان لا يرفع يديه في تكبيرات الجنازة .
قال أبو المجد : قد جاء عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى في الجنازة ثم لا يرفع بعد .
وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، من فقهاء الصحابة ، فالأخذ بفعله أولى من العمل بالرأي ، فماذا تقول في ذلك ؟
قال أبو الفضل : نعم ؛ العمل بقول الصحابي أولى من العمل بالرأي المحض ؛ لأنهم أعلم منا بالتنزيل وبالأحكام وبلغة العرب فضلا عن معاشرتهم للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، في حَلِّهِ وتَرْحَالِه .
ولكن هل صح ذلك عن ابن مسعود ؟قال أبو المجد : لا أدري .
قال أبو الفضل : هذا الأثر رواه عبد الرزاق في (مصنفه) (3/470) عن معمر قال : بلغه ذلك عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، فهذا إسناد ضعيف ، منقطع بن معمر وابن مسعود كما ترى ، فلا يجوز حينئذ أن ننسبه إلى ابن مسعود حتى يصح إسناده إليه ، والله المستعان .
قال أبو المجد : وماذا تقول - بارك الله فيك - فيما يُعزى إلى عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه ، أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يرفع بعد ؟ قال أبو الفضل : اعلم يا أخي - علمك الله ما ينفعك - أن القول في هذا الأثر كالقول في سابقه ، فقد رواه عبد الرزاق ، رحمه الله ، في (المصنف) (3/430) عن معمر عن بعض أصحابنا أن ابن عباس كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يرفع بعد .
وهذا إسناد ضعيف لجهالة أصحاب معمر كما هو واضح من الإسناد المذكور .
فلا يجوز أيضًا أن ننسبه إلى عبد الله بن عباس إلا بعد التيقن من صحته ، ومن هنا يتبين لنا أنه لم يصح عن أحد من أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في عدم الرفع شيء .
قال أبو الفضل : ولكن قد صح عن بعض أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنهم كانوا يرفعون أيديهم مع تكبيرات الجنازة .
قال أبو المجد :ثبت عمن من الصحابة ؟
قال أبو الفضل :أولاً : عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، فقد روى ابن أبي شيبة (2/490) ، والبخاري في (رفع اليدين) (رقم 110) ، وابن المنذر في (الأوسط) (5/ 426) ، والبيهقي في (الكبرى) (4/44) من طريق نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة .
وإسناده صحيح ، وذكره البخاري في (صحيحه) معلقًا بصيغة الجزم (3/226 فتح / ريان) .
ثانيًا : الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، قال الحافظ في (التخليص) (2/291) : وقد صح عن ابن عباس أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة ، ورواه سعيد بن منصور . اهـ .
قُلْتُ : ولأن (سنن) سعيد بن منصور مفقودة - إلا الجزة المطبوع وهو قليل - فسوف نعتمد كلام الحافظ على الإسناد فهو من الأئمة في هذا الشأن ، والله المستعان .ثالثًا : يبدو أن رفع اليدين في تكبيرات الجنازة كان مشهورًا عند أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،ويدلك على ذلك صنيع الإمام أبي عيسى الترمذي ، رحمه الله ، في (سننه) ، حيث قال (3/ 388) : واختلف أهل العلم في هذا ، فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وغيرهم ، أن يرفع الرجل يديه في تكبيره على الجنازة ، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق .
وقال بعض أهل العلم : لا يرفع يديه إلا في أول مرة ، وهو قول الثوري وأهل الكوفة . اهـ .
قال أبو المجد:يبدو أن رفع اليدين في تكبيرات الجنازة هو قول جمهور أهل العلم .
قال أبو الفضل : أجل هو كذلك .
قال أبو المجد: هل يمكن أن تجمل لنا من أخذ بهذا القول من أهل العلم من الصحابة وغيرهم ؟
قال أبو الفضل :سوف أذكر لك من أعلمه منهم :
1 - عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما .
2 - عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما .
3 - قيس بن أبي حازم ، رحمه الله .
4 - نافع بن جبير ، رحمه الله .
5 - موسى بن نعيم ، رحمه الله .
6 - محمد بن سيرين ، رحمه الله .
7 - الحسن البصري ، رحمه الله .
8 - عطاء بن أبي رباح ، رحمه الله .
9 - مكحول الشامي ، رحمه الله .
10 - ابن شهاب الزهري ، رحمه الله .
11 - الإمام مالك ، رحمه الله .
12 - الإمام الشافعي ، رحمه الله .
13 - الإمام أحمد ، رحمه الله .
14 - داود بن علي الظاهري ، رحمه الله .15
- عبد الله بن المبارك ، رحمه الله .
16 - إسحاق بن راهويه ، رحمه الله .
قال أبو المجد:
علمك الله كما علمتني ، وفهمك الله كما فهمتني ، وجزاك الله عني خيرًا .
نعم ؛ الأولى أن نأخذ بما ثبت عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن جمهور أهل العلم ، ونرفع أيدينا مع تكبيرات الجنائز .
قال أبو المجد:ولكن يبدو أنك تقول بحجية قول الصحابي ، وهذا القول فيه ما فيه .
قال أبو الفضل : هذه مسألة يطول النقاش فيها ، ولكن في مسألتنا هذه نأخذ بقول الصحابي لأمور .
1 - أن ابن عمر وابن عباس لم يوجد لهما معارض من الصحابة الآخرين - فيما نعلم - فكان إجماعًا سكوتيًا ؛ لأن الصحابة لا يقرون المنكر والباطل ، لا سيما في العبادات .
2 - أن الصحابة رافقوا النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وسمعوا أقواله وأفعاله وتقريراته وأحكامه ، فكانوا بذلك أعرف الأمة بربها ، وأعلم الناس بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهم أكثر الناس إخلاصًا وحرصًا على الخير ، فالأخذ بقولهم أولى من الأخذ بقول غيرهم .
3 - أن فعل الصحابي الجليل عبد الله بن عمر له مزية خاصة لما عُرِفَ عنه من شدة التحري في اتباع السنة كما هو معروف عند علماء الحديث وغيرهم ، وقد ثبت عنه - كما مر - أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات الجنازة ، فيبعد جدًا - والحالة هذه - أن يكون عبد الله بن عمر قد استحسن ذلك من قبل نفسه ، بل الغالب على الظن - إن لم يكن اليقين - أن يكون ابن عمر قد رأى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يرفع فرفع.
والله المستعان .
وكتبه وحيد بن عبد السلام بالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق