الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

هداية القرآن .. أعظم الهدايات وأوضحها وأقواها

هداية القرآن .. أعظم الهدايات وأوضحها وأقواها
من مقال للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة
تحت عنوان [ التفسير العلمي للقرآن الكريم ]
نشر مجلة رابطة العالم الإسلامي بعددها الصادر أول محرم 1395 هـ
******************
يشارك القرآن غيره من الكتب السماوية السابقة في صفة الهداية والتبشير والإنذار ، والدعوة إلى الله والحق والخير ، والنهي عن الضلال والباطل والشر ، وهذا ما لا يسع أحدًا إنكاره ، ولكن هداية القرآن الكريم تمتاز عن غيرها من الهدايات الأخرى بالوضوح والظهور وعدم الخفاء في الدليل وفي الألفاظ وفي المدلول ، وهي المعاني التي تدل عليها هذه الألفاظ ، وليس معنى هذا أنه ليست في القرآن ألفاظ تحتمل معاني متعددة أو إن شئت فقل ألفاظ من قبيل المشترك اللفظي الذي يدل على أكثر من معنى ، ما أردت هذا ، ولا أراده أحد ، ولو أراده لما تأتى له ، ولا سلم .نعم ، إن في القرآن ألفاظًا من هذا القبيل وهي كثيرة وذلك لأسرار وحكم قد لا يتسع المقام لذكرها الآن ، ولكني أكتفي الآن ببيان أن هذه الألفاظ كانت مجالاً للاجتهاد بين العلماء ومحكًا للبحث والدرس ، والنظر والتأمل ، وقدحًا للعقول في سبيل التوصل إلى المراد من هذه الألفاظ .
وسواء منها ما كان متعلقًا بآيات الأحكام والآداب ، أم كان متعلقًا بالآيات الكونية والأنفسية ، وقد اشتملت هذه الآيات الكونية والأنفسية على كثير من الأسرار التي كشف عنها تقدم العلوم الكونية والعلوم النفسية واعتبرت إعجازًا من إعجاز القرآن .
وفي الكتاب الكريم { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15، 16 ] .ومعنى بين : أي بين واضح فألفاظه عربية مبينة ، ودلالاته واضحة ظاهرة غير خفية ، وقال تعالى تقريرًا لهذه الحقيقة : { شَهْرُ‏ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ‏ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ البقرة : 185 ] .
فالقرآن ليس هدى فحسب ، ولكن هدايته هي أبين الدلالات وأوضحها وأدلها على المراد ، وأوفقها للفطر ، وأصلح ما تكون هداية وأشدها فرقًا بين الحق والباطل والهدى والضلال .
وقال تعالى : { إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا . وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الإسراء : 9، 10 ] .
فطريقته في الهداية هي خير الطرق وأشدها ، وأحكامه وآدابه هي أقوم الأحكام والآداب وأعدلها وأصلحها للعباد والبلاد ، وهذا هو ما تدل عليه كلمة ( أقوم ) والإبهام صادف محز البلاغة وجعل النفس تذهب في تفسيره كل مذهب .فلا عجب بعد هذا البيان الموجز لهداية القرآن أن كانت السعادة الحقة لا تنال إلا بالاهتداء بهديه ، والتزام ما جاء به ، وإن كان الدواء الناجع الذي ليس بعده دواء لأمراض القلوب والنفوس ، وأمراض المجتمع والشفاء الذي ليست بعده نكسة أو مرض فاهتدت به القلوب بعد ضلال ، وأبصرت به العيون بعد عمى ، واستنارت به العقول بعد جهالة ، واستضاءت به الدنيا بعد ظلمات ، وصحت به البشرية بعد أمراض ، وصدق الله : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] .
وتأملوا في كلمة ( شفاء ) فالتنوين فيها للتنويع أو للتعظيم أو للتعميم . فلتذهب النفس في تفسيره أي مذهب .( الثاني ) ليكون معجزة النبي محمد ( العظمى ، وآيته الكبرى الباقية على وجه الدهر ، وقد اقتضت حكمته ورحمته أن يكون لكل نبي آية أو آيات تدل على صدقه في دعوى الرسالة ، وهي بعد ظهورها وعجز الناس عن معارضتها قائمة مقام قول الحق تبارك وتعالى : (( صدق عبدي فيما يبلغ عني )) .
وقد شاءت حكمة الله أيضًا أن تكون آيات الأنبياء ومعجزاتهم موائمة ومناسبة لما اشتهر وبرع فيه الناس في أزمانهم وأن يكون النبي الذي ظهرت على يديه متفردًا في هذا الشيء الذي اشتهر ، ولا متفوقًا فيه عن غيره من الناس ، بل هو مثلهم في هذا وواحد منهم حتى إذا ما عجزوا جميعًا عن أمر وهو فيه سواء كان ذلك أدل على أن هذا الذي ظهر على يديه ليس من عند نفسه ولا من عند بشر ، وإنما هو من عند الله خالق القوى والقدر .وقد كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية ، وذلك لأن رسالاتهم كانت محدودة بحدود الزمان والمكان ، فهي إلى قوم مخصوصين ورسالة كل نبي تنتهي برسالة من جاء بعده من الرسل .
أما نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فقد أعطى من المعجزات الحسية مثل ما أوتى الأنبياء السابقون ، بل وأكثر مما أوتوا ، وذلك كمعجزتي الإسراء والمعراج ، وانشقاق القمر ، وحنين الجذع ونبع الماء من بين أصابعه ، والبركة في الطعام القليل حتى يكفي الكثير ، ورد عين قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد أن سقطت على وجنتيه ، فكانت أحسن عينيه وأحدهما ، وإزالة الحجب بينه وبين بيت المقدس غداة الإسراء والمعراج حتى صار كأنه حاضر بين يديه فصار يصفه له بابًا ، وشباكًا شباكًا إلى غير ذلك من المعجزات الحسية التي ثبت بعضها بالقرآن المتواتر ، وبعضها بالأحاديث المتواترة ، وبعضها بالأحاديث الصحيحة والحسنة .
ولكنه خص ( بمعجزة المعجزات وآية الآيات ، وهي القرآن الكريم وقد جاءت معجزة النبي الكبرى معنوية عقلية وذلك :
1- لأن رسالته ( عامة لجميع الخلق ومستمرة إلى يوم القيامة ، قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] .وقال سبحانه : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [ سبأ : 28 ] .
وقال عز من قائل : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 102 ] .
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم : " وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .
وفي رواية مسلم : " وبعثت إلى أحمر وأسود " .
وفي رواية له : " وبعثت إلى الخلق كافة " . [ صحيح البخاري : كتاب الصلاة - باب جعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا - وصحيح مسلم كتاب المساجد ] .
فاقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن تكون آيته الكبرى معنوية باقية على وجه الدهر ما بقي إنسان مفكر ذو بيان على وجه الأرض ، وها نحن نرى بالعيان أنه ما من عصر يمر ويجد غيره من العصور ، وإلا ويظهر شيء أو أشياء من مغيباته ، ومكنوناته ، ومساتيره ولا يزال الأمر هكذا حتى يرث الله الأرض وما عليها .
2- وأيضًا فإن أقوام الأنبياء السابقين لم يكونوا بلغوا طور الاكتمال العقلي ولا بلغوا سن الرشد الفكري ، ولم يكن عندهم من الاستعداد والذكاء والفطنة ما يؤهلهم لتلقي المعجزات العقلية المعنوية ولا سيما بنو إسرائيل ، فقد كانت فيهم من بلادة الحس وغباوة الذهن ، وغلبة الماديات عليهم ما يقصر بهم عن هذه المنزلة ، فلذلك جاءت معجزات أنبيائهم حسية .
وأما في العصر الذي بعث بخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد ( فقد تخطت فيه البشرية سن الطفولة والشباب وبلغت سن الكهولة ، وهو سن الرشد والاكتمال العقلي ، بلغ النوع البشرى أشده في الذكاء والفطنة والنضج العقلي ، وأصبح مستعدًا لتلقي المعجزات العقلية فمن ثم كانت معجزة خاتم الأنبياء والمرسلين الكبرى هي القرآن ، وقد كان لهذه المعجزة العقلية من التأثير في الهداية ما ليس لغيرها من المعجزات الحسية على كثرتها .
وقد أشار النبي ( إلى تميز آيته الكبرى عن غيرها من الآيات السابقة التي أعطيت للأنبياء فقال : " وما من نبي من الأنبياء إلا وأعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة " . [ رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ] .
وقد تحدى النبي ( العرب غير مرة بالقرآن تحداهم بكله ، ثم تحداهم بعشر سور من مثله فما استطاعوا ، ثم تحداهم بسورة منه أقصر سورة - وهي سورة الكوثر - وكرر التحدي بالسورة في القسم المدني في سورة البقرة فلم ينبسوا بكلمة ، وألقموا حجرًا ، وبهذا ثبت عجز الناس عن معارضة القرآن على أبلغ وجه وآكده .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق