المدخل لدراسة القرآن الكريم
بقلم فضيلة الدكتور الشيخ
محمد بن محمد أبو شهبة
-رحمه الله-
" تعريف القرآن " عند الأصوليين والفقهاء وأهل العربية .هو كلام الله المنزل على نبيه " محمد " صلى الله عليه وسلم المعجز بلفظه ، المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر ، المكتوب فى المصاحف ، من أول سورة " الفاتحة " إلى آخر سورة " الناس " وقد خرج بقولنا .
المنزل على نبيه ( محمد ) المنزل على غيره من الأنبياء كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف ،
وخرج بالمعجز بلفظه المتعبد بتلاوته الأحاديث القدسية على الرأى بأن لفظها من عند الله ، فإنها ليست معجزة ولا متعبداً بتلاوتها .
وخرج بقولنا ( المنقول بالتواتر .. إلخ ) جميع ما سوى القرآن المتواتر من منسوخ التلاوة ، والقراءات غير المتواترة سواء نقلت بطريق الشهرة كقراءة ( ابن مسعود ) فى قوله تعالى فى كفارة الإيمان " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ " (1) بزيادة ( متتابعات ) ، أو بطريق الآحاد مثل قراءة : " مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ " (2) بالجمع فإنها ليست قرآناً : ولا تأخذ حُكمه .ثم إن العلماء بحثوا فى الصفات الخاصة : بـ ( القرآن ) فوجدوا أنها تنحصر فى الإنزال على النبى صلى الله عليه وسلم والإعجاز ، والنقل بالتواتر ، والكتابة فى المصاحف ، والتعبد بالتلاوة .فرأى بعض العلماء زيادة التوضيح والتمييز ، فعرفه بجميع هذه الصفات كما ذكرنا آنفاً .
واقتصر بعضهم على ذكر الإنزال على النبى ، والإعجاز ، لأن ما عداهما من الصفات ليس من الصفات اللازمة ، لتحقق القرآن بدونها فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا فى تعريفه : " هو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، المعجز " .
واقتصر بعضهم على الإنزال والكتابة فى المصاحف ، والنقل تواتراً ، لأن المراد تعريفه لمن لم يدرك زمن النبوة ، وإنزال الألفاظ والكتابة فى المصاحف والنقل تواتراً من أبين اللوازم للقرآن وأوضحها بخلاف الإعجاز فليس من اللوازم البينة .
إذ لا يعرفه إلا الخواص الواقفون على أسرار اللغة وأساليبها . كما أنه ليس شاملاً لكل جزء .
إذ المعجز هو السورة أو مقدارها.واقتصر البعض على النقل فى المصاحف تواتراً ، لأنه كاف فى الغرض المقصود ، وهو تمييز القرآن عن جميع ما عداه ، فقد ثبت أن الصحابة - رضوان الله عليهم - بالغوا فى ألا يكتب فى المصحف ما ليس منه .
مما يتعلق به .
حتى النقط والشكل .
واحتاطوا فى ذلك غاية الاحتياط .
حتى لا يختلط القرآن بغيره .
واقتصر بعضهم على ذكر الإعجاز فحسب ، لأنه وصف ذاتى للقرآن إذ هو الآية العظمى المثبتة لرسالة نبينا " محمد " صلى الله عليه وسلم .
ولكون القرآن المنزل عليه من عند الله لا من عند البشر .
ولما كان بحثنا فى هذا العلم .
إنما يتعلق بنظمه العربى المبين .
فقد آثرت ألا أتعرض للقرآن من حيث كونه كلام الله .
وصفة من صفاته .
لأن هذا البحث محله " علم الكلام " (3) .
لفظ " القرآن " علمٌ شخصى :
وذهب المحققون من الأصوليين ، والفقهاء ، وأهل العربية : إلى أن لفظ القرآن " علم شخصى " مدلوله : الكلام المنزل على النبى صلى الله عليه وسلم من أول سورة " الفاتحة " إلى آخر سورة " الناس " وعلميته باعتبار وضعه للنظم المخصوص ، الذى لا يختلف باختلاف المتلفظين ، ولا عبرة بتعدد القارئين أو المحال .
وعلى هذا فما ذكره الأصوليون ، وغيرهم من تعاريف للقرآن ، ليس تعريفاً حقيقياً ، لأن التعريف الحقيقى لا يكون إلا للأمور الكلية ، وإنما أرادوا بتعريفه : تمييزه عما عداه مما لا يسمى باسمه ، كالتوراة والإنجيل ، والأحاديث القدسية ، وما نسخت تلاوته .
لفظ " القرآن " أمر كلى :
ويرى بعض العلماء : أن لفظ القرآن موضوع للقدر المشترك بين الكل وأجزائه .
فمسماه : كلى . كالمشترك المعنوى ( وعلى هذا يُعرف بما عرفه العلماء ) .
القرآن مشترك لفظى :ويرى فريق ثالث : أنه مشترك لفظى بين الكل وبين أجزائه .
فهو موضوع لكل منهما بوضع.
والحق : أنه علم شخصى ، مشترك لفظى بين الكل وأجزائه فيقال لمن قرأ اللفظ المنزل كله قرأ قرآناً .
ويقال لمن قرأ بعضه .
قرأ قرآناً .
وهو ما يفهم من كلام الفقهاء .حينما قالوا : " يحرم على الجنب قراءة القرآن " فإنهم يقصدون : قراءة كله أو بعضه على السواء .* أسماء القرآن للقرآن الكريم أسماء كثيرة : أشهرها . ( القرآن ) ومنها ( الفرقان ) لأنه فارق بين الحق والباطل قال تعالى : " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " (4) .
ومنها ( الكتاب ) وهو مصدر لكتب بمعنى : الجمع والضم . أريد به القرآن لجمعه العلوم والقصص والأخبار على أبلغ وجه ، قال تعالى : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا " (5) .
ومنها : التنزيل .
مصدر أريد به المنزل ، لنزوله من عند الله ، قال تعالى : " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ " (6) .
ومنها : " الذكر " سمى به القرآن ، لاشتماله على المواعظ والزواجر . وقيل : لاشتماله على أخبار الأنبياء ، والأمم الماضية .
وقيل . من الذكر ، بمعنى : الشرف قال تعالى : " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ " (7) أى شرف لأنه نزل بلغتكم وقال تعالى : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " (8) .
وهذه الأربعة هى أشهر الأسماء بعد لفظ " القرآن " .
وقد تسامح " أبو المعالى عزيزى بن عبد الملك " - المعروف بـ " شيذلة " (9) فى كتابه " البرهان فى مشكلات القرآن " ، فى عد ما ليس باسم اسماً ، بلغ بها خمسة وخمسين اسماً وقد نقل ذلك عنه " السيوطى " فى " الإتقان " ووافقه ثم شرع يوجه ما ذكره من الأسماء (10) .
وبلغ بها صاحب " التبيان " نيفا وتسعين اسماً .ومما ينبغى أن يتنبه إليه أن أغلب ما ذكروه أسماء للقرآن هو فى الحقيقة أوصاف له ، فمثلاً : عدوا من الأسماء لفظ " كريم " أخذاً من قوله تعالى : " إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ " (11) ، ولفظ " مبارك " أخذاً من قوله تعالى : " وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ " (12) مع أن الظاهر كونهما وصفين للقرآن لا اسمين .كما أن فى بعض ما عدوه اسماً للقرآن بُعداً وتكلفاً فى أن المراد به القرآن وذلك مثل عدهم من الأسماء : " منادياً " ، لقوله تعالى : " رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ " (13) ، ومثل عدهم من الأسماء : " زبوراً " ، لقوله : " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ " (14) مع أن الظاهر : والذى عليه جمهور المفسرين ، أن المراد بالمنادى الرسول وبالزبور الكتاب المنزل على داود ( عليه السلام ) والذكر التوارة وقيل : الزبور : جمع الكتب المنزلة ، والذكر : اللوح المحفوظ ، ويكون المراد بالزبور الوصفية لا العلمية ، فهو بمعنى المزبور أى المكتوب (15) .
---------------------
(1) المائدة 89 .
(2) الرحمن 76 .
(3) كما بحث المتكلفون فى القرآن من جهة كونه كلام الله وصفة له ، بحثوا فيه أيضاً من جهة لفظه العربى المنزل على النبى .. وهم فى تعريفهم للقرآن من هذه الجهة لم يخرجوا عما ذكره الأصوليون والفقهاء وعلماء العربية فى تعريفه وعرفوه من الجهة الأولى بأنه " الصفة القديمة القائمة بذاته تعالى المتعلقة بالكلمات الحكمية من أول سورة " الفاتحة " إلى آخر " الناس " . وهذه الكلمات الحكمية أزلية مجردة عن المواد مطلقاً . حسية كانت أو خيالية أو روحانية . وهى مترتبة غير متعاقبة وذلك مثل الصور تنطبع فى المرآة . مترتبة غير متعاقبة . وقالوا : أنها حكمية . لأنها ليست ألفاظا حقيقية مصورة بصورة الحروف والأصوات . وقالوا : أنها أزلية . ليثبتوا لها معنى القدم ، وقالوا : إنها مجردة عن المواد مطلقاً - أى الحروف اللفظية أو الذهنية أو الروحية - لينفوا عنها أنها مخلوقة ، وقالوا : إنها غير متعاقبة ، لأن التعاقب يستلزم الزمان والزمان حادث . ( وكل هذا من آثار الاشتغال بالفلسفة وتحكيم العقل فى الأمور الغيبية ، وأما نحن فنقول القرآن بألفاظه ومعانيه كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود ، وهو ما عليه السلف الصالح ، والعقل أعجز من أن يتحكم فى الأمور الغيبية التى لا تعلم إلا عن الله . أو عن طريق رسله ) .
(4) سورة الفرقان الآية 1 .
(5) سورة الكهف الآية 2 .
(6) فصلت الآية 41-42 .
(7) الزخرف الآية 44 .
(8) الحجر الآية 9 .
(9) عزيزى : قيل بضم العين وقيل بفتحها .
وشيذلة : بفتح الشين ، والذال المعجمة : وهو ابن عبد الله وهو أحد فقهاء الشافعية المتوفى سنة 494 أربع وتسعين وأربعمائة .
(10) انظر الإتقان ج1 ص 50-51 .
(11) الواقعة آية 77 .
(12) الأنبياء الآية 5 .
(13) آل عمران الآية 193 .
(14) الأنبياء الآية 105 .
(15) انظر تفسير ابن كثير والبغوى ج5 ص 541 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق