الخميس، 29 أكتوبر 2009

الحج عن الغير

الحج عن الغير
بقلم الرئيس العام / الشيخ محمد صفوت نور الدين
**********
عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : ( نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء ) . [ أخرجه البخاري ] .
وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا ، لا يستطيع أن يستوي على الراحلة ، فهل يقضي عنه أن أحج عنه ؟ قال : ( نعم ) . [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
الحج فريضة على المسلم المستطيع في العمر مرة ، فهل إذا عجز ببدنه وقدر بماله وجب عليه أن يستنيب من يحج عنه ؟
وإذا مات من لم يسبق له ، الحج فهل يجب على ورثته أن يحجوا عنه من ماله ، فيكون من الدَّين الذي يخرج من الميراث قبل تقسيمه ؟
وهل من حج تطوعًا عن غيره جاز ذلك ؟
قال ابن رشد في ( بداية المجتهد ) : لا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير - أي الحج - تطوعًا ، وإنما الخلاف في وقوعه فرضًا .
قال ابن حجر في ( الفتح ) : الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه عن الحج الواجب ، وقال أيضًا : اتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب ، فلا يدخل المريض ؛ لأنه يرجى برؤه ولا المجنون ؛ لأنه ترجى إفاقته ، ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه ، ولا الفقير لأنه يمكن استغناؤه . والله أعلم .
وقال ابن رشد : أما وجوبه - أي الحج - باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة ، فعند مالك وأبي حنيفة أنه لا تلزم النيابة إذا استطعت مع العجز عن المباشرة ، وعند الشافعي أنها تلزم ، فيلزم على مذهبه ؛ الذي عنده مال يقدر أن يحج به عنه غيره ، إذا لم يقدر هو ببدنه أن يحج عنه غيره بماله ، وإن وجد من يحج عنه بماله من أخ أو قريب سقط ذلك عنه وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب ؛ وهو الذي لا يثبت على الراحلة ، وكذلك الذي يأتيه الموت ولم يحج يلزم ورثته عنده أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه ، وسبب الخلاف في هذا معارضة القياس الأثر ، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد ، فإنه لا يصلي أحد عن أحد باتفاق ، ولا يزكي أحد عن أحد ( 1 ) ، وأما الأثر … ، وذكر الحديثين السابقين عن ابن عباس . انتهى كلام ابن رشد .
قال في ( الفتح ) : نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة ، قالوا : ولأن العبادات فرضت على جهة الابتلاء ، وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن ، فبه يظهر الانقياد أو النفور بخلاف الزكاة ، فإن الابتلاء بنقص المال وهو حاصل بالنفس وبالغير ، وأجب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح ؛ لأنه عبادة مالية بدنية معًا ، فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة ، ولهذا قال المازري : من غلَّب حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة ، ومن غلب حكم المال ألحقه بالصدقة . انتهى .
قال ابن قدامة في ( المغني ) : من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزًا عنه لمانع ميئوس من زواله كزمانة أو مرض لا يرجى زواله ، أو كان نضو ( مهزول ) الخَلْق ، لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة ، والشيخ الفاني ، ومن كان مثله متى وجد من ينوب عنه في الحج ، ومالاً يستنيبه به لزم ذلك . ( انتهى ) .
أما مالك وأصحابه ، فالمشهور من قولهم أنه لا يحج أحد عن أحد إذا كان حيًّا ، ولو كان قادرًا بماله ، ولكن يجوز أن يحج عن الميت إذا أوصى ، وأحاديث الباب حجة عليهم .
أما الأحناف ، فقال في ( المبسوط ) : المذهب عندنا أن المعضوب والمقعد والزِّمن لا يجب عليه الحج باعتبار ملك المال ، ( ثم قال ) : وحجتنا في ذلك قوله تعالى : ( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) [ آل عمران : 97] ، فإنما أوجب الله تعالى الحج على من يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى ، والزَّمن لا يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى ، فلا يتناوله هذا الخطاب ، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشرط مالاً يوصله إلى البيت بقوله : ( من وجد زادًا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ) ، وزاد المعضوب وراحلته لا يبلغانه بيت الله تعالى ؛ فصار وجوده كعدمه .
وقال أيضًا : الحج فرض العمر ، فيعتبر فيه عجز مستغرق لبقية العمر ليقع به اليأس عن الأداء بالبدن ، فقلنا : إن كان عجزه بمعنى لا يزول أصلاً كالزمالة ، يجوز الأداء بالنائب مطلقًا ، وإن كان عارضًا يتوهم زواله ؛ بأن كان مريضًا أو مسجونًا ، فإذا أدى بالنائب كان ذلك مراعى ، فإن دام به العذر إلى أن مات تحقق اليأس عن الأداء بالبدن ، فوقع المؤدى موقع الجواز ، وإن برأ من مرضه تبين أنه لم يقع فيه اليأس عن الأداء بالبدن ، فكان عليه حجة الإسلام ، والمؤدى تطوع له .
وقال أيضًا : إن الصحيح البدن إذا أحج رجلاً بماله على سبيل التطوع عنه فهو جائز .
أما الشافعية ففي ( المجموع ) : المعضوب إن لم يكن له مال ولا من يطيعه لم يجب عليه الحج ، وإن كان له مال ولم يجد من يستأجره أو وجده وطلب أكثر من أجر المثل ، لم يجب عليه الحج ، ولا يصير مستطيعًا والحالة هذه ، فلو دام حاله هكذا حتى مات فلا حج عليه ، وإن وجد مالاً ووجد من يستأجره بأجرة المثل لزمه الحج .
وقال : يلزم المعضوب الاستنابة ، ويجب عليه الإحجاج عن نفسه في صورتين .
- الأولى : أن يجد مالاً يستأجر به من يحج ، وشرطه أن يكون بأجرة المثل ، وأن يكون المال فاضلاً عن الحاجات المشترطة فيمن يحج عن نفسه ، إلا أنه يشترط هناك أن يكون المصروف إلى الزاد والراحلة فاضلاً عن نفقة عياله ذهابًا ورجوعًا ، وهنا لا يشترط إلا أن يكون فاضلاً عن نفقتهم وكسوتهم يوم الاستئجار خاصة .
- الثانية : أن يبذل واحد من بنيه أو بناته أو أبنائهم ، وإن سفلوا الإطاعة في الحج عنه ، فيلزمه الحج بذلك ، وعليه الإذن للمطيع ، هذا هو المذهب ، ونص عليه الشافعي في جميع كتبه ، واتفق عليه الأصحاب إلا السرخسي .
وقد اشترط الشافعي لوجوب الحج بالمطاع شروطًا أربعة :
هي أن يكون المطيع ممن يصح منه فرض الحج ، وأن يكون حج عن نفسه ، وليس عليه حجة واجبة بنذر أو قضاء ، وأن يكون موثوقًا بوفائه وطاعته وألا يكون معضوبًا . ( انتهى ) .
أما تحرير مذهب مالك ، قال في ( موسوعة الفقه المالكي ) : النيابة في الحج لا تجوز عن الصحيح في فرض الحج وتكره في التطوع ، وتكون بأجرة أو غير أجرة ،
وقال :
وإذا أوصى الميت أن يحج عنه بماله وكان صرورة - أي الذي لم يحج عن نفسه - نفذت الوصية من ثلث ماله ، وإن لم يوص سقط عنه .
وقال ابن شاش في ( عقد الجواهر ) :
فإن عجز عنها لم تلزمه النيابة ولا تجوز إن اختارها ، إذ لا تصح النيابة ، وهي وقوع الحج عن المحجوج عنه ، وروي إجازة ذلك .
وقال ابن وهب وأبو مصعب : يجوز في حق الولد خاصة .
وقال ابن حبيب :
جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لا منهض له ولم يحج ، وعن من مات ولم يحج أن يحج عن ولده وإن لم يوص به ، ويجزيه إن شاء الله .
وقال أشهب في كتابه : إن حج عن الشيخ الكبير أجزأه .
وقال ابن عبد البر في ( التمهيد ) :
وقال مالك : كل من قدر على التوصل إلى البيت وإقامة المناسك بأي وجه قدر بزاد وراحلة أو ماشيًا على رجله فقد لزمه فرض الحج ، ومن لم يستطع لمرض أو زمانة فليس بمطالب بالحج .
ثم قال : ومن حجة مالك أيضًا ومن ذهب مذهبه عموم قوله تعالى : ( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) [ آل عمران : 97] ، فبأي وجه استطاع ذلك بنفسه وقدر فقد لزمه الحج ، وليست استطاعة غيره استطاعة له .
ثم قال : وحمل بعضهم حديث الخثعمية على أن ذلك على الاستحباب لمن شاء لا على أداء واجب .
ثم قال : حجة أصحاب مالك في تشبيه الحج بالدَّين : أن ذلك خصوص للخثعمية كما خص أبوها بأن تعمل عنه ما لم يجب عليه ، وكذلك خصت بالعمل عنه لتؤجر ويلحقه ثواب عملها بدليل القرآن في الاستطاعة .
ثم قال : وفي هذا الحديث أيضًا دليل على جواز حج الرجل عن غيره ، واختلف الفقهاء في ذلك .
فقال الحسن بن صالح بن حي : لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يُحج عنه حجة الإسلام ، وهو قول مالك والليث .
وقال أبو بكر بن العربي في ( أحكام القرآن ) :
في هذا الحديث ( حديث الخثعمية ) جواز الحج عن الغير ؛ لأنها عبادة بدنية مالية ، والبدن وإن كان لا يحتمل النيابة فإن المال يحتملها ، فروعي في هذه العبادة جهة المال وجازت فيه النيابة ، وصرح النبي صلى الله عليه وسلم بجواز النيابة في غير هذا الموضع وضرب المثل بأنه لو كان على أبيها دين عبد لسعت في قضائه ، فدَين الله أحق بالقضاء .
قال القرطبي ( ج4 ص150 ) :
قال مالك : إذا كان معضوبًا سقط عنه فرض الحج أصلاً سواء كان قادرًا على من يحج عنه بالمال لا يلزمه فرض الحج ، ولو وجب عليه الحج ، ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج ، ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال ، بل إن أوصى أن يحج عنه بعد موته حج عنه من الثلث وكان تطوعًا ، واحتج بقوله تعالى : ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ) [ النجم : 39] .
فأخبر أنه ليس له إلا ما سعى
وقال أيضًا : وقال علماؤنا : حديث الخثعمية ليس مقصوده الإيجاب ، وإنما مقصوده الحث على بر الوالدين والنظر في مصالحهما دنيا ودينًا ، وجلب المنفعة إليهما جبلة وشرعًا ، فلما رأى من المرأة انفعالاً وطواعية ظاهرة ورغبة صادقة في برها بأبيها وحرصًا على إيصال الخير والثواب إليه ، وتأسف أن تفوته بركة الحج أجابها إلى ذلك ، كما قال للأخرى التي قالت : إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : ( حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ ) قالت : نعم .
ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات وإيصال البر والخيرات للأموات ، ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدَّين ، وبالإجماع لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه . ( انتهى ) .
وكلام القرطبي فيه تحرير مذهب مالك في الإنابة في الحج ، وحديث الخثعمية والجهنية حجة في جواز الإنابة في الفرض وبغير وصية وعن الميت والمعضوب .
قال ابن تيمية : يجوز للمرأة أن تحج عن امرأة أخرى باتفاق العلماء سواء كانت بنتها أو غير بنتها ، وكذلك يجوز أن تحج المرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الخثعمية ، ( وقال ) : لا يستحب للرجل أن يأخذ مالاً يحج به عن غيره إلا أحد رجلين : إما رجل يحب الحج ورؤية المشاعر ، وهو عاجز فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح ، ويؤدي به فريضة الحج عن أخيه ، أو رجل يحب أن يبرئ ذمة الميت عن الحج ؛ إما لصلة بينهما أو لرحمة عامة بالمؤمنين ونحو ذلك ، فيأخذ ليؤدي به ذلك ، وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ ، وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح ، فمن ارتزق ليتعلم أو ليعلم أو ليجاهد ، فحسن كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل الذي يغزون من أمتي ويأخذون أجورهم مثل أم موسى ؛ ترضع ابنها وتأخذ أجرها ) ( 1 ) ، شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه كرغبة أم موسى - عليه السلام - في الإرضاع بخلاق الظئر المستأجر على الرضاع إذا كانت أجنبية .
وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح ؛ لأن يرتزق ، فهذا من أعمال الدنيا ، ففرق بين من يكون الدِّين مقصوده والدنيا وسيلته ، ومن تكون الدنيا مقصوده والدِّين وسيلته ، والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق ، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها . ( انتهى ) .
وقال القرطبي عند قوله تعالى : ( أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ) [ البقرة : 202] ، وعن ابن عباس : هو الرجل يأخذ مالاً يحج به عن غيره فيكون له ثواب .
وقال القرطبي أيضًا : تحصيل مذهب مالك ؛ أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة ، والحجة للحاج ، فكأنما يكون له ثواب بدنه وأعماله ، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه .
قال شيخ الإسلام في ( مختصر الفتوى ) ( ص396 ) : ويجوز الحج بمال يؤخذ على وجهة النيابة اتفاقًا ، أما على وجه الإجارة ففيه قولان للعلماء ، وهما روايتان عن أحمد .
وقال : إن كان قصده الحج أو نفع الميت ، كان له في ذلك أجر وثواب ، وإن كان ليس له مقصد إلا أخذ الأجرة ، فما له في الآخرة من خلاق .
وفي ( بداية المجتهد ) : اختلفوا في الرجل يؤجر نفسه في الحج ؛ فكره ذلك مالك والشافعي ، وقالا : إن وقع ذلك جاز ، ولم يُجز ذلك أبو حنيفة ، وعمدته أنه قربة إلى الله عز وجل ، فلا تجوز الإجارة عليه ، وعمدة الطائفة الأولى إجماعهم على جواز الإجارة في كَتْب المصاحف وبناء المساجد وهي قربة .
والإجارة في الحج عند مالك نوعان :
أحدهما : يسميه أصحابه على البلاغ ، وهو الذي يؤجر نفسه على ما يبلغه من الزاد والراحلة ، فإن نقص ما أخذه عن البلاغ وفاه ما يبلغه ، وإن فضل شيء رده .
والثاني : على سنة الإجارة إن نقص شيء وفاه من عنده ، وإن فضل شيء فله . · هل يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه ؟
قال الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه : يشترط فيمن يحج عن غيره أن يكون قد حج عن نفسه ، ودليلهم حديث أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة ، قال : ( ومن شبرمة ؟ ) قال : أخ لي ، أو قريب لي ، قال : ( احججت عن نفسك ؟ ) قال : لا ، قال : ( فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) .
قال الخطابي : فيه من الفقه أن الصرورة لا يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه ، وفيه أن حج المرء عن غيره إذا كان قد حج عن نفسه جائز ، وفيه أن من أهَلَ بحجتين لم يلزمه إلا واحدة ، ولو كان لاجتماع وجوبها فساغ ، فدل على أن الإحرام لا ينعقد إلا بواحدة ، أما مالك وأصحاب الرأي فقالوا : يجوز أن يحج عن غيره الصرورة .
قال ابن عبد البر : وقال مالك : يجوز أن يحج عن الميت من لم يحج قط ، ولكن الاختيار أن يحج عن نفسه أولاً ؛ ثم يحج عن غيره …، وإنما قال : لا يشترط أن يحج النائب عن نفسه أولا ؛ لأنهم عللوا حديث : ( لبيك عن شبرمة ) ، والحديث صحيح كما حققه الأرناؤوط في ( جامع الأصول ) ( ج3 ص 422 ) ، وقال الألباني في ( مشكاة المصابيح ) ( هامش ص776 ج2 ) وهو حديث صحيح مرفوع كما حققته في جزء لي .
هذا ، فالحديث حجة لمن اشترط أن يحج عن نفسه أولاً من أراد أن يحج عن غيره .
· هل على الورثة حج لمورثهم ؟
قال في ( الفتح ) : من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله ، كما أن عليه قضاء ديونه ، فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس ماله ، فكذلك ما شبه به في القضاء ، ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك . ( انتهى ) .
بعد هذا العرض يمكننا القول بجواز النيابة عنه في الحج عن المعضوب والميت في حجه ، الفريضة والنذر ، وتجب على من استطاع بماله أن يؤجر من يحج عنه ، وأن من مات وترك ميراثًا ولم يكن قد حج يُخرج من ماله بقدر ما يحج به عنه إن لم يتبرع عنه أحد ، فإن أوصى تعين الحج عنه من ثلثه .
هذا ، ويجوز أن يحج تطوعًا عن الميت والمعضوب ، ويجوز الحج عن الصحيح الحي في حجة التطوع ، ولا تجوز في الفريضة أو النذر .
وأن المعضوب إذا استناب من يحج عنه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر إن غلب على ظنهم أنه لا يرجى برؤه ؛ لأنه عذر معتبر شرعًا ، ولا يُطالب بحجتين إلا إذا نذرها ، والله أعلم .
كتبه محمد صفوت نور الدين

الحج عرفة

الحج عرفة
بقلم فضيلة الشيخ محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -
*********
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " (1) الحديث أخرجه أحمد فى مسنده ورواه أبو داود والترمزى والنسائى وابن ماجه فى السنن .. كما رواه ابن حبان والحاكم وصححاه من رواية عبد الرحمن بن يعمر الديلى (2) : أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فسألوه فأمر منادياً فنادى الحج عرفة .. من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه ، وفى لفظ لأبى داود : الحج الحج يوم عرفة وفى رواية لأحمد : الحج حج عرفة .
قال الترمزى : والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، أنه من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر فقد فاته الحج ، ولا يجزىء عنه إن جاء بعد طلوع الفجر ، ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل ، وعن وكيع قال : هذا الحديث أم المناسك .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : تقديره : إدراك الحج وقوف عرفة ، قال القارى : أى ملاك الحج ومعظم أركانه : وقوف عرفة ، لأنه يفوت بفواته .
أى : أن من أدرك عرفة ليلة مزدلفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج فلم يفته ، وأمن الفساد ، وعليه أن يتم أعمال الحج بعد ذلك ، والحديث دال على أن من لم يدرك عرفة قبل طلوع الفجر من يوم النحر فإنه لا حج له ، وعليه أن يتم عمرة ليتحلل من إحرامه ويحج من قابل .
العبد يعتق والصبى يحتلم والصبية تحيض بمزدلفة :معلوم أن الحج فرض على المسلم البالغ الحر فإن حج العبد ثم أعتق أو الصبى ثم بلغ فلا تجزئه عن حجة الإسلام .
قال القرطبى : إذا أعتق العبد أو بلغ الصبى وهو محرم قبل عرفة أجزأته عن حجة الإسلام .
ولو أعتق بمزدلفة وبلغ الصبى بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزأت عنهما من حجة الإسلام ولم يكن عليهما دم .
قال الشنقيطى فى أضواء البيان : والحاصل أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعاً ، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعاً .
وإن اقتصر على الليل دون النهار فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور ، خلافاً للمالكية القائلين بلزوم الدم .
وإن من اقتصر على النهار دون الليل لم يصح وقوفه عند المالكية ، وحجه صحيح عند الجمهور ، وهو الصحيح فى مذهب أحمد ، وإن كان أحمد وأبو حنيفة قالا : يلزم الدم .
أما من اقتصر فى وقوفه على الليل دون النهار ، أو النهار من بعد الزوال دون الليل ، فأظهر الأقوال فيه دليلاً : عدم لزوم الدم .
أما المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور فى رأس المقال .
حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم : " فقد أدرك الحج " فهذا نص صريح على المقتصر على الليل وقوفاً ، ولا يدل على لزوم الدم ، وليس له معارض ، وعليه جمهور أهل العلم .
أما من اقتصر فى وقوفه على النهار دون الليل فلحديث عروة بن المضرس الطائى قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول الله إنى جئت من جبلى طىء أكللت راحلتى وأتعبت نفسى والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لى من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى نرفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه " والحديث أخرجه أحمد وأصحاب الشنن والدارمى ، وهو صحيح ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " فقد تم حجه " ظاهر فى عدم لزوم الجبر بالدم .
وإن خالف فى ذلك المالكية .
أما من وقف نهاراً قبل الزوال ، فظاهر فعل النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده يبين المقصود من النهار وأنه بعد الزوال ، وهذا هو الأرجح والأحوط عند أهل العلم .
ولابن القيم فى زاد المعاد كلام نفيس حول وقوف النبى صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بعرفة نسوق هنا بعضه ، قال : وموضع خطبته لم يكن من الموقف ، فإنه خطب (4) بُعرنة وليست من الموقف ، وهو صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة ، وخطب بُعرنة ، ووقف بعرفة ، وخطب خطبة واحدة ، ولم تكن خطبتين جلس بينهما .
فلما أتمها أمر بلالاً فأذن ، ثم أقام للصلاة فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة ، وكان يوم الجمعة فدل على أن المسافر لا يلزمه الجمعه ، ثم أقام فصلى صلاة العصر ركعتين أيضاً ، ومعه أهل مكة ، وصلوا بصلاته قصراً وجمعاً بلا ريب ، ولم يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجمع .
ومن قال : إنه قال لهم : " أتموا الصلاة فإنا قوم سَفر " فقد غلط فيه غلطاً بيناً ، ووهم هما قبيحاً وإنما قال لهم ذلك فى غزوة الفتح بجوف مكة حيث كانوا فى ديارهم مقيمين .
ولهذا كان أصح أقوال العلماء ، أن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة كما فعلوا مع النبى صلى الله عليه وسلم ، وهذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ولا بأيام معلومة ولا تأثير للنسك فى قصر الصلاة البتة .
وإنما التأثير لما جعله الله سبباً وهو السفر ، هذا مقتضى السنة ، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون .
فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقف ، فوقف فى ذيل الجبل عند الصخرات ، واستقبل القبلة وجعل جبل المشاة بين يديه ، وكان على بعيره فأخذ فى الدعاء والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس ، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنه .
وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك بل قال : " وقفت هنا وعرفة كلها موقف " .
صعود جبل الرحمة من بدع الحج :
قال الشنقيطى فى أضواء البيان : اعلم أن الصعود على جبل الرحمة الذى يفعله كثير من العوام لا أصل له ، ولا فضيلة فيه لأنه لم يرد فى خصوصه شىء بل هو كسائر أرض عرفة ، عرفة كلها موقف ، وكل أرضها سواء إلا موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فالوقوف فيه أفضل من غيره .
ومسجد نمرة كان فى عُرنة ، ولم يكن فيه من عرفة شىء ، واليوم قد اتسع المسجد فصار جزء منه فى عرفة يجزىء الوقوف فيه ، وبقيته فى بطن عُرنة لا يجزىء الوقوف فيه لمن لم يدخل إلى عرفة على التفصيل السابق .
صوم يوم عرفة :
فى الحديث عند مسلم عن أبى قتادة رضى الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة قال : " يكفر السنة الماضية والباقية ".
قال المنذرى فى الترغيب : قال الحافظ : اختلفوا فى صوم يوم عرفة بعرفة ، فقال ابن عمر : لم يصم النبى صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ، وأنا لا أصومه ، وكان مالك والثورى يختاران الفطر ، وكان ابن الزبير وعائشة يصومان يوم عرفة .
والفطر عمل أكثر أهل العلم ، ويستحبون ذلك لمن وقف بعرفة ليتقوى على الدعاء ، وقد قال الشافعى ذلك .
وقال ابن المنذر : الفطر . يوم عرفة بعرفات أحب إلىَّ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصوم بغير عرفة أحب إلىَّ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن صوم يوم عرفة - فقال : " يكفر السنة الماضية والباقية " .
فضل يوم عرفة :
قال القرطبى فى تفسيره : يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم : يكفر الله فيه الذنوب العظام ويضاعف فيه الصالح من الأعمال .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية " . وقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون قبلى : لا إله إلا الله وحده لا شريك له " .
وروى الدارقطنى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عدداً من النار من يوم عرفة وأنه ليدنو عز وجل ثم يباهى بهم الملائكة ، يقول : ما أراد هؤلاء " .
وفى الموطأ عن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما رُئى الشيطان يوماً هو فيه اصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه فى يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا مارُئى يوم بدر .
يوم اجتماع طاعة وعبادة وإخلاص :
يقول الله تعالى : " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " ( البقرة : 196 ) قال القرطبى : وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق ، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة ولا حظ بقصد ، ولا قربة بمعتقد فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه ثم سامح فى التجارة .
إذا نظرت أخا الإسلام لقول القرطبى هذا علمت أن الشيعة اليوم بمحاولتهم التظاهر فى الحج يحيون سنن الجاهلية ، وهم كذلك فى كل شأنهم واجتهادهم لنشر ضلالاتهم وإحياء عبادة غير الله والشرك بصوره ، فاللهم نجنا من ضلالتهم وشركهم .
ونسوق من الأدعية الخاصة بالعرفة ، والعامة به وبغيره :ما يمكن للحاج أن يدعو بها وبأمثالها ، وبعضها مأثور عن السلف الصالح ، وهى منقولة من زاد المعاد لابن قيم الجوزية ، ومن المغنى لابن قدامة : اللهم لك الحمد كالذى نقول وخيراً مما نقول .
اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى وإليك مآبى ، ولك ربى تُراثى . اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر ، ووسوسة الصدر ، وشتات الأمر .
اللهم إنى أعوذ بك من شر ما تحبىء به الريح .
اللهم تسمع كلامى ، وترى مكانى وتعلم سرى وعلانيتى ، ولا يخفى عليك شىء من أمرى ، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير والوجل المشفق المقر المعترف بذنوبى ، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خضعت لك رقبته ، وفاضت لك عيناه ، وذل لك جسده ، ورغم لك أنفه ، اللهم لا تجعلنى بدعائك ربى شقيا وكن بى رؤوفا رحيماً يا خير المسئولين ، ويا خير المعطين ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شىء قدير .
اللهم اجعل فى قلبى نوراً ، وفى صدرى نوراً ، وفى سمعى نوراً ، وفى بصرى نوراً ، اللهم اشرح لى صدرى ، ويسر لى أمرى .
وأعوذ بك من وسواس الصدر ، وشتات الأمر ، وفتنة القبر ، اللهم إنى أعوذ بك من شر ما يلج فى الليل ، وشر ما يلج فى النهار ، وشر ما تهب به الرياح ، وشر بوائق الدهر .
كان ابن عمر يقول : الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، اللهم اهدنى بالهدى ، وقنى بالتقوى واغفر لى فى الآخرة والأولى .
وروى من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة : " اللهم إنك ترى مكانى ، وتسمع كلامى ، وتعلم سرى وعلانيتى ، ولا يخفى عليك شىء من أمرى ، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير ، الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خشعت لك رقبته وذل لك جسده ، وفاضت لك عينه ورغم لك أنفه " .
ومن دعاء أعرابى يرويه سفيان الثورى يقول : إلهى من أولى بالزلل والتقصير منى وقد خلقتنى ضعيفاً .
ومن أولى بالعفو عنى منك ، وعلمك فىّ سابق ، وأمرك فىّ محيط أطعتك بإذنك والمنة لك ، وعصيتك بعلمك والحجة لك ، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتى ، وبفقرى إليك وغناك عنى ، أن تغفر لى وترحمنى ، إلهى لم أحسن حتى أعطيتنى ، ولم أسىء حتى قضيت على، اللهم أطعتك بنعمتك فى أحب الأشياء إليك ، شهادة أن لا إله إلا الله ، ولم أعصك فى أبغض الأشياء إليك ، الشرك بك ، فاغفر لى ما بينهما ، اللهم أنت أنس المؤنسين لأوليائك وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك ، تشاهدهم فى ضمائرهم ، وتطلع على سرائرهم ، وسرى اللهم لك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف ، إذا أوحشتنى الغربة آنسنى ذكرك ، وإذا أصمت علىَّ الهموم لجأت إليك ، استجارة بك ، علماً بأن أزمة الأمور بيدك ، ومصدرها عن قضائك .
وكان إبراهيم بن إسحاق الحربى يقول : اللهم قد آويتنى من ضناى ، وبصرتنى من عماى ، وأنقذتنى من جهلى وجفاى ، أسألك ما يتم به فوزى ، وما أؤمل فى عاجل دنياى ودينى ، ومأمول أجلى ومعادى ، ثم ما لا أبلغ أداء شكره ، ولا أنال إحصاءه وذكره ، إلا بتوفيقك وإلهامك ، أن هيجت قلبى القاسى ، على الشخوص إلى حرمك ، وقويت أركانى الضعيفة لزيارة عتيق بيتك ، ونقلت بدنى لإشهادى مواقف حرمك ، اقتداء بسنة خليلك ، واحتذاء على مثال رسولك ، واتباعاً لآثار خيرتك وأنبيائك وأصفيائك ، صلى الله عليهم ، وأدعوك فى مواقف الأنبياء عليهم السلام ، ومناسك السعداء ، ومشاهد الشهداء ، دعاء من أتاك لرحمتك راجياً ، عن وطنه نائياً ، ولقضاء نسكه مؤدياً ، ولفرائضك قاضياً ، ولكتابك تالياً ، ولربه عز وجل داعياً ملبياً ، ولقلبه شاكياً ولذنبه خاشياً ، ولحظة مخطئاً ولرهنه مغلقاً ، ولنفسه ظالماً ، وبجرمه عالماً ، دعاء من جمعت عيوبه ، وكثرت ذنوبه ، وتصرمت أيامه ، واشتدت فاقته ، وانقطعت مدته ، دعاء من ليس لذنبه سواك غافراً ، ولا لعيبه غيرك مصلحاً ، ولا لضعفه غيرك مقوياً ، ولا لكسرة غيرك جابراً ، ولا لمأمول خير غيرك معطياً ، ولا لما يتخوف من حر ناره غيرك معتقاً ، اللهم وقد أصبحتُ فى بلدٍ حرامٍ ، فى يوم حرامٍ ، فى شهرٍ حرام ، فى قيام من خير الأنام ، أسألك أن لا تجعلنى أشقى خلقك المذنبين عندك ، ولا أخيب الراجين لديك ، ولا أحرم الآملين لرحمتك ، الزائرين لبيتك ، ولا أخسر المنقلبين من بلادك ، اللهم وقد كان من تقصيرى ما فد عرفت ، ومن توبيقى نفسى ما قد علمت ، ومن مظالمى ما قد أحصيت ، فكم من كرب منه قد نجيت ، ومن غم قد جليت ، ومن هم قد فرجت ، ودعاء قد استجبت ، وشدةٍ قد أزلت ، ورخاء قد أنلت ، منك النعماء ، وحسن القضاء ، ومنى الجفاء ، وطول الاستقصاء ، والتقصير عن أداء شكرك ، لك النعماء يا محمود ، فلا يمنعنك يا محمود من إعطائى مسألتى ، من حاجتى إلى حيث انتهى لها سؤلى ، ما تعرف من تقصيرى ، وما تعلم من ذنوبى وعيوبى ، اللهم فأدعوك راغباً ، وأنصب لك وجهى طالباً ، وأضع خدى مذنباً راهباً ، فتقبل دعائى وارحم ضعفى ، وأصلح الفساد من أمرى ، واقطع من الدنيا همى وحاجتى ، واجعل فيما عندك رغبتى ، اللهم واقلبنى منقلب المدركين لرجائهم ، المقبول دعاؤهم ، المفلوج حجتهم ، المغفور ذنبهم ، المحطوط خطاياهم ، الممحو سيئاتهم .
المرسود أمرهم منقلب من لا يعصى لك بعده أمراً ، ولا يأتى بعده مأثماً ، ولا يركب بعده جهلاً ، ولا يحمل بعده وزراً ، منقلب من عمرت قلبه بذكرك ، ولسانه بشكرك ، وطهرت الأدناس من بدنه ، واستوعبت الهدى قلبه وشرحت بالإسلام صدره ، وأقررت قبل الممات عينه وأغضضت عن المآثم بصره ، واستشهدت فى سبيلك نفسه يا أرحم الراحمين .
وصل الله وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً كما تحب ربنا وترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
محمد صفوت نور الدين
الهوامش
------------------
(1) اختلف فى سبب تسمية عرفة وعرفات على أقوال منها : أنه من العرف ، بمعنى : الرائحة الزكية ، وذلك لأن منى تصبح رائحتها لكثرة الذبح متغيرة ، أما عرفات فلا يصيبها ذلك أو لأنها مطيبة بالتقديس ، فهى واد مقدس معظم ، لأنه من شعائر الله .
وقيل : لأن الناس يجتمعون فيه فيتعارفون - وقيل : لأن العباد يتعرفون على ربهم بالطاعات والعبادات ، وقيل : من الصبر لأن العارف والعروف هو الصبور .
وقيل : لأن الله بعث جبريل عليه السلام إلى إبراهيم ، فحج به ، حتى إذا أتى عرفة ، قال : عرفت وكان قد أتاها مرة قبل ذلك ، قال له : عرفت . وقيل : لأن آدم وحواء تعارفا بعد الهبوط إلى الأرض .
وعرفات مع أن فيها العلمية والتأنيث إلا أنها مصروفة لأن الأصل فيها الجمع كمسلمات ومؤمنات سميت به بقعة معينة فروعى فيها الأصل فكانت منصرفة .
وتسمى عرفات : المشعر الحلال ، والمشعر الأقصى ، وتسمى : إلال ، على وزن هلال ، ويقال للجبل الذى وسطها : جبل الرحمة . وحد عرفات من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبل المقابل له إلى ما يلى حوائط بنى عامر ، وليس وادى عُرنة من الموقف ، ولا يجزىء الوقوف فيه ، وعرفة موضع الموقف فى الحج وهى عمدة أفعال الحج .
وقريش فى الجاهلية كانوا لا يقفون بعرفة ، ويفيضون من مزدلفة ، والناس يقفون بعرفة .
يقول أهل قريش : نحن أهل الله فى بلدته وقطان بيته ، فيقفون فى طرف الحرم عند أدنى الحل ، فأنزل الله تعالى قوله : " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " ( البقرة : 199 ) .
(2) عبد الرحمن بن يعمر الديلى صحابى نزل الكوفة ويقال : مات بخراسان .
ليس له فى مسند أحمد وأصحاب السنن غير هذا الحديث ، وله حديث آخر فى الأشربة أنكر الذهبى والحفاظ نسبته إليه .
فكأنى بهذا الصحابى الجليل لم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى الحج ، فسمع هذا الحديث ورآه فنقلته عنه كتب السنة . وهو من الأحاديث التى بنيت عليها أحكام هامة فى الحج ، وله منزلة عالية عند المحدثين والفقهاء ، هو وحديث عروة بن المضرس الطائى المذكور .
وهى من أعمدة نصوص الحج عند الفقهاء .
(3) جمع : اسم لمزدلفة لأنها تجمع الحجيج فيها ليلة العيد .
(4) كانت خطبة النبى صلى الله عليه وسلم يوم عرفة خطبة جامعة ، وكانت قبل الأذان جاء فيها : " إن دماءكم وأموالكم عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ، ألا كل شىء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمى ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وكان مسترضعاً فى بنى سعد فقتلته هذيل .
وربا الجاهلية موضوع وأول رباً أضع ربانا ، ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، واتقوا الله فى النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ،ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدى إن اعتصمتم به : كتاب الله .
وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس : " اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد " ثلاث مرات ، وقال فى خطبته : " اعلموا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، كحرمة شهركم هذا ، كحرمة بلدكم هذا " ، وقال فيها : " أيها الناس إن الله أدى لكل ذى حق حقه ، وأنه لا يجوز وصية لوارث ، والولد للفراش وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله له صرفاً ولا عدلاً " .

الحاج الذي لم يحج

الحاج الذي لم يحج
بقلم فضيلة الشيخ الدكتور جمال المراكبي
******
الحج ركن ركين من أركان هذا الدين ولهذا فرضه الله عز وجل في كتابه العزيز فقال : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) {آل عمران: 97} ، وقال صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس وذكر منها : وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً " .
ولقد تأخر فرض الحج عن سائر الفرائض فلما حج رسول الله وأصحابه نزل عليه {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} فلا يكمل دين المسلم إلا بحج بيت الله الحرام إن كان مستطيعاً. ولا يزال الناس يحجون منذ عرف الناس البيت وإلى أن يشاء الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم "ليحجن هذا البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج". {صحيح الجامع 5361}. فإذا قبض الله أرواح المؤمنين في آخر الزمان ولم يبق على الأرض إلا شرار الخلق توقف الحج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت". {صحيح الجامع 7419}. ولهذا وجب على كل مستطيع أن يتعجل الحج، وأن يحرص على أن يكون حجه صحيحاً مبروراً ، والصحيح ما كان لله ، يبتغي به الحاج وجه الله و كان على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : خذوا عني مناسككم " . والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". {متفق عليه } وهو يعدل الجهاد في سبيل الله فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور". {البخاري كتاب الحج حديث رقم 1423}.
وعند النسائي :" جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة الحج والعمرة " ( ك مناسك الحج باب فضل الحج حديث 2579 ) . وهو من أفضل القربات فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: "ثم ماذا؟" قال: "حج مبرور". ( متفق عليه ) وروى أحمد بسند صحيح( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله وحده ثم الجهاد ثم حجة بَرة تفضل سائر الأعمال ما بين مطلع الشمس إلى مغربها) حم15831 وصححه الألباني في صحيح الترغيب1103. وهو سبب لغفران الذنوب فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجح كيوم ولدته أمه". {البخاري 1424}. وقال صلى الله عليه وسلم " الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم". {ابن ماجه ح2883 ، النسائي 2578 – 3020 } وقال : "تابعوا بين الحج والعمرة، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد". {حم 162 عن عمر }. وروى أحمد بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا لقيت الحاج فسلم عليه وصافحه ومُرْهُ أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته فإنه مغفور له "( حـ 5116 ) ويشهد لمعناه ما رواه مسلم في قصة أويس القرني مع رجل من قبيلته حين قال له : استغفر لي فقال له : أنت حديث عهد بنسك .
الحاج الذي لم يحج: إذا كان هذا فضل الحج الذي لا ينكر فهل ينال هذا الأجر كل من لبس ملابس الإحرام وسافر إلى بيت الله الحرام ووقف بعرفه وبات بمنى ومزدلفة ووقف عند المشعر الحرام وفعل ما يفعله الناس وأفاض من حيث أفاض الناس أم أن هناك من الحجيج من يصلح أن يقال لهم :(حجوا فإنكم لم تحجوا ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته: ( صل فإنك لم تصل) متفق عليه. فمن حج بمال حرام وحرص على أكل أموال الناس بالباطل ولم يترك ذنباً إلا وفعله ومن شغل لسانه بالغيبة والنميمة وأكل لحوم المؤمنين فهل ينفعه حجه ! أمن هو ممن قال الله فيه{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نزقه من عذاب أليم} وإذا كان الحاج يحرم عليه حال إحرامه الرفث فإذا وقع في الرفث بجماع زوجته فسد حجه باتفاق أهل العلم ، وأمر أن يتم نسكه مع فساده وأن يقضي حجه في عام قابل مع أن جماع الزوجة أصله حلال فكيف بمن أسرف على نفسه في الموبقات حال الحج وقبله وبعده فهل ينفع هذا حجه. إن الحج من الأعمال الظاهرة التي لا يملك العبد أن يخفيها عن الناس ومثل هذه الأعمال التي تكثر فيها المباهاة ويقل فيها الإخلاص ويفشوا فيها الرياء والسمعة ويصاحبها العجب يكون الإخلاص فيها عزيزاً ولا يبلغه إلا من جاهد نفسه في طاعة الله حتى إن نبينا صلى الله عليه وسلم لما ركب ناقته وأهل بالحج سأل ربه عز وجل أن يجعل حجه خالصاً لوجهه الكريم فقال( اللهم حجه لا رياء فيها ولا سمعه). ولا يصح الحج إلا بتمام متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الشروط والأركان حيث قال ( وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ) وقال (خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ) فما هو البر؟ وكيف يكون الحج مبروراً؟ ورد البر في النصوص الشرعية بإطلاقين: أولها: فعل الطاعات كلها من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإعطاء المال للفقراء والمساكين ، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود، والصبر على البلاء كما في قول الله تعالى{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{177}} والحاج يحتاج إلى هذه الأمور كلها فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان ، ولا يكمل حجه ويكون مبروراً بدون اقام الصلاة واتاء الزكاة، فإن أركان الإسلام بعضها مرتبط ببعض ، ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود التي يلتزم بها الحاج مثل تأشيرة الدخول وتأشيرة الحج وعدم التضييق على الحجيج في الطرقات ونحو ذلك.وكذلك يحتاج الحاج إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في سفر الحج فلا يخرجه ذلك عن حسن الصحبة والعشرة لرفقائه.
ثانيها:حسن الخلق ، وقد ورد هذا مرفوعاً في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر فقال( البر حسن الخلق) ولا شك أن حسن الخلق من تمام الإيمان وكماله ومن أفضل العمل الصالح الذي يفضي إلى الجنة فأكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بر الحج فقال ( إطعام الطعام وطيب الكلام وإفشاء السلام) وكان بن عمر يقول (إن البر شئ هين وجه طليق وكلام لين) وبالجملة فإنه يشمل معاملة الناس بخلق حسن وهذا يحتاج إليه الناس في الحج كثيرا حتى قال بعضهم (إنما سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال) .
فهذا هو الحج المبرور الذي جعل الله ثوابه الجنة فيامن سافرت إلى بلد الله الحرام وتلبست بأعمال الحج ولبست ملابس الإحرام سل نفسك هل حججت حقا؟ وهل ترجوا أن يكون حجك مبروراً؟ أم تكتفي بأن يكون حجك ظاهرا أمام الناس؟
الصنف الآخر من الناس من عجز عن الحج فلم يسافر إلى بيت الله الحرام ولم يتلبس بأعمال الحج ومع ذلك فقد نال ثواب الحج كاملاً وربما حصل على أعلى وأعظم من ثواب الحج وهؤلاء هم الذين يلحقون من سبقهم ويسبقون غيرهم ولم يدركهم أحد بعدهم إنهم هم الموفقون حقا روى البخاري في صحيحة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ قَالَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ تَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) البخاري كتاب الآذان رقم 798 باب الذكر بعد الصلاة. لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء من أصحابه أنهم بهذا الذكر اليسير يحرزون الدرجات العلا والأجر الكبير كما قال صلى الله عليه وسلم ( ألا أونبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال:ذكر الله). رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح. ولما كان الحج من أفضل الأعمال والنفوس تتوق إليه لما جعل الله في القلوب من الحنين إلى بيت الله الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً تهفوا النفوس وتشتاق القلوب ويعاودها الحنين إليه ، ولما كان كثير من الناس يعجز عنه ولاسيما في كل عام فقد شرع الله لعبادة أعمالا يسيرة يبلغ أجرها أجر الحج فيعتاض بذلك العاجزون عن التطوع بالحج والعمرة. 1_ فمن صلى الصبح في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له مثل أجر حجه وعمره تامة تامة تامة. رواه الترمذي وحسنه الألباني في الصحيحة رقم 3403 . 2_ومن بكر إلى الجمعة فراح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه , والبدنه: هي الناقة التي تهدى إلى بيت الله الحرام في الحج والعمرة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (فكأنما قرب بدنه) ولم يقل فكأنما تصدق بناقة. فليست كل ناقة بدنه. لهذا المعنى ذهب بعض السلف إلى أن شهود الجمعة يعدل في الأجر حج النافلة. قال سعيد بن المسيب( هو أحب إلي من حجة النافلة). ويروى بسند ضعيف (الجمعة حج المساكين) فطوبى لمن حج في الشهر أربع مرات وفي العام أكثر من خمسين مرة مع أنه لم يسافر إلى بيت الله الحرام ولم يتجشم أعباء السفر الجسام خاصة إذا حرص على الاغتسال للجمعة واحتسب خطواته إليها وراح في الساعات الأولى وسبق إلى الصف الأول ودنا من الأمام فاستمع وأنصت ولم يلغ كما جاء في الحديث ( من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها). فإذا كان هذا الأجر لمن شهد الجمعة وأنصت للموعظة ، فكيف بأجر الإمام الواعظ الذي يقوم في المصلين في مقام النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخلص النية ، ووافق السنة. 3_ولقد ورد في الفضل ما هو أعظم من ذلك فمن تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد لأداء الصلاة في جماعة فقد نال مثل أجر الحاج وقد ورد هذا في حديث مرفوع (من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد لأداء صلاة مكتوبة فأجره مثل أجر الحاج المحرم، ومن خرج لصلاة الضحى كان له مثل أجر المعتمر) . رواه أبو داود وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب. 4_ وصوم يوم عرفة يكفر سنتين سنة ماضية وسنة باقية كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا كان المرجو من الحج غفران الذنوب فإن صيام هذا اليوم كفارة للذنوب.
فأين المسارعون إلى الخيرات ؟ وأين السابقون إلى القربات
والله تبارك وتعالى يقول{ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{134} وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ{136}} آل عمران. وقال سبحانه{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{21}} الحديد. ومع كل هذا الفضل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليربت به على قلوب الفقراء فتطيب به ،فإن منهج المتسابقين إلى الخيرات والمسارعين إلى القربات يملأ قلوب المؤمنين شوقاً وحسرتاً وألماً وحزناً على كل خير فاتهم ويغبطون ويحسدون من سبقهم إليه . لقد كان الأغنياء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوظفون أموالهم في سبيل الله ، وكان فقراء الصحابة كلما رأوا أصحاب الأموال منهم ينفقون في هذة القربات يصيبهم الحزن لأنهم لا يجدون ما ينفقون ولقد ذكرهم الله في كتابه ومدحهم بهذا فقال{ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{91} وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ{92}}التوبة. حتى قال بعض أهل العلم هذا والله بكاء الرجال بكوا على فقدهم وسائل تحملهم إلى الموت في سبيل الله لأنهم لا يريدون إلا وجه الله لأجل هذا عوضهم الله تبارك وتعالى بالنية الصادقة الخالصة ثواب العاملين لما علم صدقهم واختبر أحوالهم فأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم شاركوا المجاهدين في أجورهم. فقال تعالى عن المجاهدين{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{120} وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{121} }التوبة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الفقراء الذين حرموا هذا الجهاد( إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرا ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم في الأجر حبسهم العذر) متفق عليه. وإذا كان أهل الفضل يتنافسون في الخيرات ويتسابقون في القربات أذن الله لهم أن يغبطوا بعضهم بعضاً وأن يحسد بعضهم بعضاً حسداً محموداً يتشاركون به في الأجر وإذا خلصت النوايا وصدق الصادقون. (لا حسد إلا في اثنتين رجل اتاه الله مالا فهو ينفقه في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار ورجل اتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ) متفق عليه ويشارك هذين في الفضل رجل صادق النية يقول( لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل)البخاري7232. (عن أَبُي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بمنه وكرمة أن يرزقنا حج بيت الله الحرام وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه إنه ولي ذلك والقادر عليه . وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة وسلم.

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

الإسلام هو العاصم من مفاسد المدنية الحديثة

الإسلام هو العاصم من مفاسد المدنية الحديثة
للأستاذ الجليل الشيخ / سيد سابق
**********
إن من المتفق عليه أن من نقائض المدنية الحديثة :
1- إهدار القيم الروحية مما تسبب عنه انحطاط الأخلاق ونضوب معين الفضائل .
2- واعتبار القوة وتقديسها إلى حد العبادة دون مراعاة للحق والعدل .
3- التهديد بالحرب واختراع أدوات التدمير والقتل ، مما جعل الناس يعيشون في جو يسود القلق والاضراب .
وهذه النقائض هي نفسها نقائض الجاهلية وقد كانت مثار فساد كبير في المجتمع البشرى مما اقتضى جهودا كبيرة من رسل اللَّه وأنبيائه .
ولقد جاء الإسلام ليمنع هذه المفاسد ويبنى مدينة راقية تتفق مع رقى الإنسان الفكرى ونضوجه العقلى فدعا إلى الإصلاح ونهى عن الفساد في الأرض ، فقرر أن الهلاك لا يحل بالأمة وهي صالحة مصلحة تؤمن بالحق وتفعل الخير .
{ وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها ظالمون }والصالحون من عباد اللَّه الذين يؤدون الحق ويضطلعون بالواجب ويتحملون المسئوليات وينهضون بالتبعات ، هم أحق وأولى بخيرات الأرض والانتفاع بخيراتها وتوزيعها على مستحقيها .{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ(105)}[ الأنبياء : 105 ] .
والحياة الطيبة حياة القلب والعقل والضمير إنما هي ثمرة الإيمان صحيح وعمل صالح { من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }.
ولقد يخل للمصلح أن جهده الإصلاحي يذهب سدى ويتبخر كما تتبخر ذرات الماء في الهواء فأخبر اللَّه سبحانه أن ذلك لمذخور لا يضيع منه شيء { والذين يمسكون الكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين } .
وبإزاء هذه الدعوة إلى الصلاح والإصلاح الذي يرطب الحياة ويجعلها جديرا بأن يحيها الإنسان ويظهر فيها مواهبه وطاقته ويفتح فيها أفاقا واسعة من الإنتاج والابتكار ، نهى عن الفساد حتى لا يتوقف عمل المصلحين ولا يتباطا سير العاملين فقال : { وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77) }[ سورة القصص : 77 ] ، وقال : { ذوَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(56) } [ سورة الأعراف : 56 ] .
والفساد طبيعة النفاق ومرض القلب ، ولهذا يقول القرآن الكريم :{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ(12) }[ سورة البقرة : ] ، والمفسدون لا يستحقون إلا أن يحجبوا عن اللَّه ، ويحال بينهم وبين رحمته ورضاه ، يقول اللَّه سبحانه : { والذين ينقضون عهد اللَّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللَّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } [ سورة القصص : 4 ] .
وعلى محبى الإصلاح أن يرصدوا خطوات المفسدين ويجنبوا المجتمع شرورهم بكل وسيلة ممكنة ، ولو كان ذلك ببترهم وقطع دابرهم { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33) } [ المائدة: 33] .
إن الفساد كان العمل الأول لفرعون فحوسب عليه الحساب العسير { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4) }[ سورة القصص : 4 ] .
وطبيعة الاستبدال التي تتسلط على المستعمرين تملى عليهم أن يستعبدوا غيرهم وينكلوا بالضعفاء ويفسدوا بتمكين من لا كفاية له وإهدار كرامة الأحرار .
{ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(34) }[ سورة النمل : 24 ] .
وهناك صنف من الناس يحسنون القول ويسيئون العمل لا تنطوى حوائجهم إلا على خبث الطوية وفساد الضمير وسوء القصد ، وهم مع ذلك أقوياء في لبس الحق بالباطل وستر أعمالهم السيئة بما يظهرونه من لين القول وعذوبة الحديث
- يقول اللَّه سبحانه : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد اللَّه على ما في قلبه وهو ألد الخصام .
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل واللَّه لا يحب الفساد .
وإذا قيل له أتق اللَّه أخذته العزة فحسبه جهنم ولبئس المهاد }[ سورة البقرة : ] .
ولقد حذر القرآن المسلمين من الفساد إن هم تولوا الحكم ، وأوعدهم إن هم فعلوا ذلك بشر مصير : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22)أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(23) } [ سورة محمد] .
هذه هي دعوة الإسلام إلى الإصلاح ونهيه عن الفساد لينتظم أمر العيش وليأمن كل نفسه وماله وعرضه وكرامته
- أما شريعة الغاب التي يطبقها دعاة الحضارة المادية في هذا العصر فهى بربرية لا تتفق مع ما حصل عليه الإنسان من رقى مادي ونجاح في ميادين الحياة المختلفة ...
ونحن معشر المسلمين مطالبون بنشر دعوة الإسلام لنقدم للناس هذا النور الذي لا غنى عنه لهم ، وهذا الروح الذي لا حياة لهم بدونه وهذه القيم التي تجعل الإنسانية تستمع بسكينة النفس وطيب العيش وسلام الضمير .

الأحد، 25 أكتوبر 2009

من مفردات القرآن : الرؤيـــــا (2)

من مفردات القرآن : الرؤيـــــا (2) بقلم فضيلة الشيخ : جميل غازي - رحمه الله -
**************
7- هل تتحقق الرؤيا فورًا :
ليس حتمًا أن تحقق "الرؤيا الصادقة" فور رؤيتها ؛ بل قد يتأخر تحققها إلى أمد بعيد .فهذه رؤيا يوسف لم تتحقق إلا بعد عشرات السنين ، وبعد جهاد طويل خاصة يوسف عليه السلام .
8- المبشرات :
والمبشرات هي " الرؤيا الصالحة" كما جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا : وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة " .
وليس معنى هذا أن كل رؤيا صادقة تعبر بشارة ، بل قد تكون - أحيانًا - نذارة .
يقول القرطبي - (( التفسير )) (ج9 ص127) -: وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق ، وليس كذلك ، فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها ، وإنما يريد الله تعالى المؤمن رفقًا به ورحمة ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه .
ولعل البشرى المشار إليها في قوله تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا } هي : الرؤيا الصالحة يرونها أو ترى لهم .
9- رؤيا الكافر :
وقد تصدق رؤيا الكافر ، ولا تكون حينئذ من المبشرات ، وإنما تكون إنذارًا له أو لغيره أو وعظًا - كما في رؤيا ملك مصر ، رجع الفصل لابن حزم (ج5 ص19) .
10- تعدد الأحلام في النومة الواحدة :
ويمكن للإنسان أن يرى أكثر من حلم أو رؤيا في ليلة واحدة ونومة واحدة كما حدث لملك مصر .
11- الرؤيا والنبوة :
أخرج البخاري في كتاب التعبير "باب رؤيا الصالحين" عن أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة " .
فما معنى هذا ؟
وهل يفيد هذا الحديث ... أن حقيقة الرؤيا الصادقة كحقيقة النبوة ؟
يقول ابن خلدون - مجيبًا على هذه التساؤلات وغيرها -: "وما ذهب إليه بعضهم في رواية ( ستة وأربعين ) من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر - وهي نصف سنة - ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاثة وعشرون سنة ، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين - فكلام بعيد عن التحقيق ، لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء " ؟
ثم يقول :" إن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة ، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة " .
( وهناك رأي آخر يبديه صاحب كتاب مؤتمر تفسير سورة يوسف ( ج1 ص177 ) مؤداه أن كون الرؤيا الصادقة جزءًا مما ذكر إنما هو باعتبار صدقها لا غير ، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمي نبيًّا ، وليس كذلك .
12- رؤي الأنبياء ورؤي غيرهم :
والفرق كبير بين رؤي الأنبياء ، ورؤي غيرهم ، فرؤي الأنبياء لا تكذب أبدًا ، بل هي صادقة دائمًا ، أما رؤي غيرهم فقد تصدق وقد تكذب .
ولا يحكم على رؤيا يراها الناس بالصدق إلا بعد ظهور صدقها ، أما قبل ذلك : فلا بخلاف رؤي الأنبياء فإنها وحي مقطوع بصحته .
فمثلاً - رؤيا إبراهيم عليه السلام - لو رآها غير نبي لما كان له أن ينفذها ، أو يهم بتنفيذها .
ولو فعل لكان فاسقًا أو عابثًا أو مجنونًا .
13- رؤي الأنبياء .. والرمزية :
أحيانًا تكون رؤي الأنبياء من قبيل الرمز والتمثيل والمجاز والاستعارة كما في آية الأنفال ، وكما في كثير من رؤي النبي صلى الله عليه وسلم التي روتها كتب السنة .
- "رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة - ( المهيعة هي الجحفة ميقات أهل المدينة ) - فأولتها بالحمى " .
- "رأيت سيفي قد انقطع صدره ، وبقرًا تنحر ، فأولتها برجل من أهل بيتي يقتل ، والبقر نفر من أصحابي يقتلون" .
- " رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة ، فأولتها المدينة " .
- " رأيت في يدي سوارين فنفختها فطارا ، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي " .
14- هل يثبت بالرؤيا حكم شرعي ؟
والرؤيا المنامية - ولو كانت صحيحة وحقًا - لا يثبت بها حكم شرعي ، فلا تحرم الحلال ، ولا تحلل الحرام . ( مؤتمر تفسير سورة يوسف المعملي ج1 ص180 ) .
ويقول علاّمة الشام محمد ناصر الدين الألباني - (( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة المجلد الأول ج5 ص67 )) - :
" ومن المقرر عند العلماء أن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي ، فبالأولى لا يثبت بها حديث نبوي ، والحديث هو أصل الأحكام بعد القرآن " .
15- حديث : " من رآني في المنام فقد رآني " .
وأما حديث : "من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي " فقد قال فيه صاحب "تحفة الأحوذي" (ج3 ص239) : "المراد به إذا رآه على صفته المعروفة في حياته ، فإن رأى على خلافها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة " .
قال : "وقد ذهب إلى هذا جماعة ، فقالوا : في الحديث أن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها ، ومنهم من ضيق الغرض من ذلك حتى قال : لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة " !!
ثم يقول : " قال الحافظ : والصواب التعميم في جميع حالاته بشرط أن تكون صورته الحقيقة في وقت ما سواء كان في شبابه ورجولته وكهولته وآخر عمره" .
ويقول القرطبي : "اختلف في معنى الحديث ، فقال قوم من القاصرين : هو على ظاهره ، فمن رآه في النوم رأى حقيقته كما يرى في اليقظة ، وهو قول يدرك فساده ببادئ العقل ، إذ يلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها ، وأن لا يراه اثنان في وقت واحد في مكانين ، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويخاطب الناس ، ويخلو قبره عنه فيزار غير جثته ، ويسلم على غائب لأنه يرى ليلاً ونهارًا على اتصال الأوقات ، وهذه حالات لا يقول بالتزامها من له أدنى مسكة من عقل وملتزم ذلك مختل مخبول .

من مفردات القرآن : الرؤيـــــا

من مفردات القرآن : الرؤيـــــا

بقلم فضيلة الشيخ : جميل غازي - رحمه الله -

{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ .قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ . وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ يوسف : 4- 6 ] .

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [ يوسف : 100 ] .

تحدث القرآن الكريم في آياته المحكمات عن مجموعة من الرؤى :

- ففي (( سورة الأنفال )) : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } [ الأنفال : 43 ] .

- وفي (( سورة الإسراء )) : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] .

- وفي (( سورة الصافات )) : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ .فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْصَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ الصافات : 103- 105 ] .

- وفي (( سورة الفتح )) : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } [ الفتح : 27 ] .

- أما في سورة يوسف فنلتقي بخمسة رؤى :

الرؤيا الأولى : رؤيا يوسف : { يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] .

الرؤيا الثانية : رؤيا ساقي الملك : { إني أراني أعصر خمرًا } [ يوسف: 36 ] .

الرؤيا الثالثة : رؤيا خباز الملك : { إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ } [ يوسف : 36 ] .

الرؤيا الرابعة : رؤيا الملك الأولى : { إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ } [ يوسف : 43 ] .

الرؤيا الخامسة : رؤيا الملك الثانية : { وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } [ يوسف : 43 ] .

ولما كان الحديث عن (( الرؤيا )) يثير عدة تساؤلات ، فقد آثرت أن أستعرض في هذا المقال نماذج من تلك التساؤلات ، ثم أتناولها بالإجابة بقدر ما يوقف اللَّه ويعين .

تساؤلات :

- لماذا سميت الرؤيا : رؤيا ؟

- وما معنى الحلم ؟ وما هي أضغاث الأحام ؟

- وما معنى (( تعبير الرؤيا )) ؟

- وما هي أنواع الرؤيا ، وهل رأى علماء النفس في الرؤيا صحيح .

- وماذا يفعل الإنسان إذا رأى ما يحب ، أو ما يكره ؟

- وهل تتحقق الرؤيا الصادقة فورًا ؟

- وما هي المبشرات ؟

- وهل يمكن أن تتحقق رؤيا الكافر ؟

- وهل يمكن أن يرى الإنسان في منامه حلمين في ليلة واحدة في نومة واحدة ؟

- وما معنى كون الرؤيا الصادقة جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة ؟

- وما الفرق بين رؤيا الأنبياء ، ورؤيا غيرهم ؟

- وإذا كانت رؤيا الأنبياء حقًا ، فلماذا أرى اللَّه نبيه جيش المشركين في بدر قليلاً ، وهي يومئذ كثير ؟

- وهل يثبت بالرؤيا حكم شرعي ؟

- ثم ... ما تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم : (( من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي )) ؟

1- الرؤيا :

سميت (( رؤيا )) - بالألف - لأنها عبارة عما يرى في النوم ، كما أن (( الرؤية )) - بالتاء - اسم لما يرى في اليقظة ، فهما : (( كالقربة )) و(( القربى )) وفرق بينهما للتميز .

ثم .. أنه قلما يحلم الإنسان حلمًا تحتوي مادته على لغة وكلام ، وإنما الأكثر يرى الحلم ولا يسمع كلامًا .. كما في رؤى (( سورة يوسف )) كلها .. ولذلك اشتق (( للرؤيا )) اسم فيه معنى (( الإبصار )) لا (( يسمع )) .

2- الحلم :

الحلم - بضم الحاء وسكون اللام ، وقيل : بضمها -: ما يرى في المنام من الخيالات الفاسدة ، قال القسطلاني : وإضافة (( الحلم )) إلى الشيطان لكونه على هواه ومراده ، وأما إضافة (( الرؤيا ))

- وهي : اسم للمرئي المحبوب - إلى اللَّه تعالى ، فإضافة تشريف ، وظاهره أن المضاف إلى اللَّه تعالى لا يقال : حلم ، والمضاف إلى الشيطان لا يقال له : رؤيا وهو تصرف شرعي ، وإلا فالكل يسمى : رؤيا .

3- أضغاث الأحلام :

وأضغاث الأحلام : تخاليطها وأباطيلها ، وما يكون منها من حديث نفس ، أو وسوسة شيطان ، وأصل الأضغاث : ما جمع من أخلاط النبات ، الواحد : ضغث ، فاستعيرت لذلك ، والإضافة بمعنى (( من )) أي : أضغاث من أحلام .

4- تعبير الرؤيا :

تعبير الرؤيا : ذكر عاقبتها ، وآخر أمرها ، كما تقول : عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه ، وهو عبره .

ونحوه : (( أولت الرؤيا )) إذا ذكرت مآلها ومرجعها .

ولم يذكر في القرآن الكريم لفظ التعبير إلا مرة واحدة في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] .

5- أنواع الرؤيا :

وللرؤيا أنوع كثيرة ذكر منها ابن حزم - (( الفصل في الملل والفصلي في الملل والأهواء والنحل ج5 ص19 )) أربعة :

- ما يكون من قبل الشيطان ، وهو ما كان من الأضغاث والتخليط الذي لا ينضبط .

- ما يكون من حديث النفس ، وهو : ما يشتغل به المرء في اليقظة فيراه في النوم من خوف عدو ، أو لقاء حبيب ، أو خلاص من خوف أو نحو ذلك .

- ما يكون من غلبة الطبع .

- ما يريه اللَّه عز وجل نفس الحالم إذا صفت من أكدار الحسد وتخلصت من الأفكار السيئة .

و(( علم النفس )) الحديث يتفق مع ابن حزم في النوعين : الثاني والثالث ، ويخالفه في الأول والرابع ؛ لأنهما يستندان إلى أمر (( غيبي )) والغيبية مرفوضة في بحوث علم النفس !!

وقد وقع علم النفس وعلماؤه في حيرة بسبب رفض هذين النوعين !!

إذ كيف يمكن تفسير الرؤى الصادقة ، التي تحقق في عالم الواقع ، وفق قواعد علم النفس ومقرراته ؟!

ماذا يفعل من رأى ما يحب ؟

وماذا يفعل من رأى ما يكره ؟

أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي قتادة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : (( الرؤيا الصالحة من اللَّه ، والحلم السوء من الشيطان ، فمن رأى رؤيا يكره منها شيئًا فلينفث عن يساره وليتعوذ باللَّه من الشيطان فإنها لا تضره ، ولا يخبر بها أحدًا ، فإن رأى رؤيا حسنة فليستبشر ولا يخبر بها إلا من يحب )) .

وأخرج مسلم وأبو داود من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم : (( أمر من رأى ما يكره أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه ، وأمره أن يصلي )) .

فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين ، يأمر من رأى ما يكره بخمسة أشياء :

1- أن ينفث عن يساره .

2- أن يستعيذ باللَّه من الشيطان .

3- أن لا يخبر بها أحد .

4- أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه .

5- أن يقوم إلى الصلاة .

[ (( زاد المعاد في هدي خير العباد )) لابن القيم ج2 ص92 ].

ويأمر من رأى ما يحب بشيئين :

1- أن يستبشر .

2- أن لا يخبر بها إلا من يحب .

وقد قال مالك رضي اللَّه عنه : لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها ، فإن رأى خيرًا أخبر به ، وإن رأى مكروهًا فليقل خيرًا أو ليصمت . ( يتبع ) .

السبت، 24 أكتوبر 2009

موقع الكتيبات الإسلامية

موقع الكتيبات الإسلامية www.ktibat.com
موقع إسلامي جديد يهتم بالكتيبات الإسلامية النافعة 1-الموقع ينشر الكتيبات التي تم طبعها ونشرها من قبل الجهات ودور النشر المعروفة ، مثل دار القاسم ودار الوطن ودار ابن خزيمة وغيرها . 2- حرصنا على أن يكون لكل دار نشر تصميم على غلاف الكتاب يختلف عن الدار الأخرى . 3- يتم طباعة الكتيب الإسلامي وعرضه في الموقع كما هو موجود في أصل الكتيب تماماً بدون تعديل أو زيادة أو نقص ، مع مراعاة الأخطاء الإملائية . 4- الحرص على نشر الكتب أو الكتيبات الإسلامية والتي هي ليست موجودة على شبكة الإنترنت. 5- الحرص على نشر بعض الكتب النادرة والتي يصعب الحصول عليها في المكتبات فضلاً عن شبكة الإنترنت . 6- الحرص على طباعة بعض الرسائل الجامعية سواءً كانت رسائل ماجستير أو دكتوراة والتي تهم طالب العلم .
:: ساهم بالنشر في المنتديات والمجموعات البريدية والمواقع الأخرى:: وتذكر أن الدال على الخير كفاعله

حملة تصحيح تلاوة سورة الفاتحة

حملة تصحيح تلاوة سورة الفاتحة.. اقرأها صحدورات ومحاضراتحلقات التصحيحاتصل وصححكتيب الفاتحةcd الفاتحةالبرنامج الإذاعيمسابقات وجوائزشهادة تصحيحشارك برأيك

الجمعة، 23 أكتوبر 2009

لا تنم والمحمول بجانبك

لا تنم والمحمول بجانبك
يحذر أطباء فرنسيون رئيس من خطورة وضع التليفون المحمول علي أقل من سنتمترين من الجسم‏,‏ وطالبوا بإغلاقه وقت النوم ووضعه علي بعد‏50‏ سنتمترا من الجسم‏,‏ لما له من آثار جانبية تشمل اضطرابات النوم والصداع وضعف التركيز والاكتئاب والإعياء‏.
‏وأكد بيير سوفي رئيس رابطة الصحة والبيئة بفرنسا أن دراسات عدة أثبتت أن للمحمول آثارا فسيولوجية وبيولوجية عدة علي مستخدميه تشمل انخفاض هرمون النوم المعرف بـ الميلاتونين وهو هرمون ذو خصائص مضادة للسرطان‏.‏
وقال سوفي ان دراسات سابقة أظهرت تغيرات في معدل نبضات قلب الجنين الذي يتعرض لموجات الهاتف النقال لمدة عشر دقائق أو يتعرض لها مباشرة بعد ميلاده‏.‏
ودراسات اخري أظهرت انخفاضا في حركية وعدد وفاعلية الحيوانات المنوية تناسبا مع نسبة استخدام الهاتف النقال‏.‏ الأهرام، 11/10/2009

حقا.. لا تقرأوه

حقا.. لا تقرأوه
«تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009» الذي تصدره الأمم المتحدة، مفزع ومذل.
وأذل ما فيه حقائقه ووقائعه وأرقامه.
ونحن قوم نكره ما نسميه النقد الذاتي، أي مواجهة الواقع، ونفضل عليه الكذب الذاتي والغش الذاتي والخداع العام.
وكما يُنصح ذوو القلوب الضعيفة بعدم مشاهدة الأفلام القاسية أنصح جميع العرب، بكل محبة وصدق، ألا يقرأوا التقرير، لأنه يوجع القلب دون جدوى، ولأن كثيرين غدا سوف ينتقدون التقرير وواضعيه، بدل أن يحاولوا بذل ساعة واحدة أو جهد واحد أو قرش واحد في سبيل تغيير بسيط في هذا الوضع المزري والمؤسف واليائس.
لن أحاول اختصار 270 صفحة من الأرقام والجداول والنسب في بضعة أسطر، لأن ذلك يسيء إساءة بالغة إلى الجهد العلمي المبذول.
ولكن الخلاصة ليست أننا مصابون فقط بالفقر والجهل والأمية والبطالة والأوبئة والجوع وسوء التغذية بل بالفظاظة وثقافة الاغتصاب وأن العالم العربي هو أكبر سوق للاتجار بالبشر في هذا الكوكب السعيد.
والخلاصة أننا شعب بلا أمن صحي أو اقتصادي أو اجتماعي أو إنساني.
ويفيد جدول حول الفقر في 9 بلدان عربية أن عدد الفقراء في مصر (تحت 2.7 دولار في اليوم) هو 30 مليونا من أصل 73 مليون نسمة، وفي سورية 5.50 مليون من أصل 18 مليونا، في لبنان 1.10 مليون من أصل 4 ملايين، الأردن 0.60 مليون من أصل 5.50. المغرب 11 مليونا من أصل 28 مليون نسمة، تونس 2.30 مليون من أصل 9.65 مليون نسمة، اليمن 13 مليونا من أصل 21 مليونا.
تصل البطالة في بلد مثل الجزائر إلى 40%، أما معدلاتها في البلدان الأخرى فهي الأعلى في العالم.
ولا فرص في الأفق، خصوصا أمام 65 مليون فقير عربي، أو نحو 63.2% من المجموع، وخصوصا في المناطق الريفية التي لا تزال الأكثر حرمانا.
وتزداد نسبة المعاناة البشرية العامة في بلدان كالعراق والصومال والسودان والأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويشكل الإيدز وباء قاتلا يتم التستر عليه.
وفي العام 2007 توفي أكثر من 31.600 بالغ وطفل بالمرض (80% في السودان).
وفي ذلك العام قدر عدد الإصابات في العالم العربي بـ 435.000 حالة منها 73.5% في السودان، حيث أكثرية الإصابات في صفوف النساء.
ويرد التقرير الكثير من المصائب إلى آثار الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والأميركي في العراق.
ويقول إن الحقوق المدنية سقطت في البلدين كما سقطت في الصومال ودارفور، حيث تعرضت النساء لعمليات اغتصاب جماعية، معظمها كان مرفقا بفيروس الإيدز.
وتخجل الضحايا من الشكوى إلى الدوائر الرسمية أو إلى أحد خوفا من العار.
---------------------
سمير عطا الله، الشرق الأوسط ، 12/10/2009
والكاريكاتير من نفس الصحيفة، بتاريخ 13/10/2009

الخميس، 22 أكتوبر 2009

اتباع الشرع … ومخالفة الهوى

اتباع الشرع … ومخالفة الهوى
بقلم فضيلة الشيخ محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -
*******
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه .
وبعد : فإن غرورًا بالغًا يصيب الناس في كل زمان ، خاصة هذا الزمان ، حيث ينظرون إلى أنفسهم أنهم أهل التقدم والحضارة والرقي ، وأن من سبقهم هم أهل التخلف والانحطاط والرجعية ، فيقولون : وصلنا من العلوم ما لم يدركه السابقون ، فأقوالنا وآراؤنا أعلم وأحكم ، ومن عجب أنهم يقولون ذلك حتى في أمور الشرع والدين !!
فيجعلون الخلف في معرفة الله بأسمائه وصفاته أعلم وأحكم من السلف ، وهذه مقولة خبيثة تحمل أصحابها ومن اغتر بهم على رد ما جاء به الشرع .
والإنسان قد وهبه الله في كل عصر من العلوم ما ينظم بها حياته ، فلا ينبغي أن يتطاول بها أو يطغى ، فإن فعل أخذه الله أخذ عزيز مقتدر .
وبعض العصور الماضية قد بلغ الإنسان فيها طرفًا من العلوم المادية ، عجز رجال اليوم ومفكروه عن معرفته واستخدامه ، من أمثلة ذلك قوم عاد وثمود وقوم فرعون ، فقوم عاد يبنون مدينة (إرم) التي قال عنها رب العزة سبحانه : ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) [ الفجر : 7 ، 8] ، ووصف قوم ثمود بقوله : ( الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ) ، وبقوله :(يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ ) [ الحجر : 82] ، وكذلك وصف قوم فرعون بقوله :( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ) [ الفجر : 10] ؛ أي الذين يبنون الجبال ، فالأهرامات في بنائها وتحنيط جثث موتاهم بها ، وما طلبه فرعون من وزيره أن يبني له صرحًا يبلغ به السماء ، كل ذلك من العلوم ما يعجز علماء اليوم أن يعرفوه .
ففي مجالات التقدم العمراني كانت عاد وثمود وقوم فرعون مضرب الأمثلة في القرآن الكريم .
أما في مجال التقدم الطبي ؛ فنحن نظن أن الإنسان قديمًا كان عاجزًا عما نعرفه اليوم من علوم وأبحاث في طب الأبدان ، وهذا من غرورنا ، لكن ظهر للباحثين خلاف ذلك ، ففي العصر البرونزي عرف الإنسان عملية التربنة التي يستبدل فيها جزء تالف من عظام الدماغ وهي من الجراحات الدقيقة ، وعرف القدماء المصريون زراعة الأسنان ، وعرف الهنود قبل الميلاد بسبعة قرون عملية ترقيع الجلد ، ولا تزال طريقتهم هي المستخدمة اليوم عند الأطباء المعاصرين مع بعض التعديلات الطفيفة .
هذا ؛ والله سبحانه الذي بعث كل نبي بمعجزة يبهر بها قومه فيما كانوا يجيدون ويحسنون ، بعث المسيح ، عليه السلام : ( وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ آل عمران : 49] ، وذلك لأن القوم برعوا في الطب بما لم يبلغه من قبلهم ولا من بعدهم .
وليس بغريب علينا ما نراه من طب العرب القدماء من العطارة والأعشاب ما يحتاجه أطباء اليوم ويتداولونه .
وإن التقدم العلمي اليوم والتطور الهائل لا نستطيع له إنكارًا ، وإنما أردت أن أبين أن حلقات التقدم المادي متغيرة على مر التاريخ ، والتقدم فيها ليس دليل تقدم ورقي شامل ، فالله سبحانه عاب أقوامًا بقوله : (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) [ الروم : 7] ، وإن زيادة التقدم العلمي قرب الساعة يشهد له قوله تعالى في سورة (يونس) : ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) [يونس : 24] .
ولكن التقدم العلمي والتقني اليوم في غرس الأعضاء وغيره أفاد كثيرًا ، وأدى خدمات للبشرية ، إلا أنه من جهة أخرى وضعنا أمام قضايا فقهية ومشاكل أخلاقية كثيرة لا بد من وضع حلول شرعية لها ، وهذه القضايا الجديدة في أمور الطب والقضايا القريبة منها في أمور المال قد تتفاوت فيها أنظار الفقهاء والعلماء المتخصصين بين مجيزين يحلون منها الكثير وبين متحفظين ينهون منها عن اليسير فينظر غير المتخصص فيحتار في هذه الأقوال المختلفة ويحتار ماذا يعمل ؟!
لذا فإنه ينبغي علينا في كل أمر حادث جديد أن ننظر إلى فتاوى المجامع العلمية المعتبرة التي يشهدها عدد كبير من علماء العالم الإسلامي ، والتي يستعان فيها بالخبراء والمتخصصين دون تأثير على أقوالهم وقراراتهم من نظام سياسي أو مطمع دنيوي مادي ، فقراراتهم هي الأقرب إلى سبيل المؤمنين الذي قال رب العزة عنه : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء : 115] .
هذه المجامع الفقهية كثيرة في العالم الإسلامي ، مثل مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة ، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة ، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ، وغيرها من المجامع الفقهية .
وسيجد المسلم الذي يريد أن يتحرى عن أمر دينه في قرارات هذه المجامع بغيته المنشودة ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، فإن العلم هو أفضل ما يتقي به العبد الشبهات ، فإن المشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، أي يعلمهن قليل من الناس ، هم العلماء ، فيطلب علمها عندهم .
لذا فإنك تجد الفتاوى الفردية في المستجدات العصرية متفاوتة تفاوتًا كبيرًا ، بينما قرارات المجامع العلمية إن لم تكن متطابقة فهي متقاربة جدًا ، وهي بتحفظات علمائها الصادرة في قراراتهم لا تكاد تختلف مع غيرها من نظائرها .
وليس معنى هذا ادعاء العصمة لهذه القرارات بحيث لا يجوز لمجمع جديد أن ينقض فتوى لمجمع فقهي سابق ، بل كلما اتسع ما لديهم من علوم وخبراء ومتخصصين يدلون بدلوهم ويوضحون حقيقته العلمية والأدلة الشرعية والوقائع والنتائج والتطبيقات ورصدها ، كلما كثر ذلك ، كانت قراراتهم أصوب وأحكم .
لذا فعلى المسلم أن يأخذ في المستجدات العصرية ، مثل أحكام الأموال والبنوك والبورصة وأحكام الجراحات الحديثة ، وما شابه ذلك عليه أن يأخذ بفتاوى المجامع العلمية المعتبرة دون ادعاء العصمة لها .
أما الفتاوى الفردية ، فمع إجلالنا وتقديرنا واحترامنا لمن أفتوا بها ، فإننا نضعها في موضعها الصحيح ، غير معارضين بها فتاوى وقرارات المجامع العلمية .
يقول ابن المبارك : (رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يقتدى به في هفوته وزلته) .
كتبت هذه الكلمات تنبيهًا على مسألة هامة ؛ وهو أنه في الأمور الحادثة العصرية التي لم يسبق لها نظير يجب اتباع فتاوى وقرارات اللجان العلمية المعتبرة التي يشهدها عدد كبير من علماء العالم الإسلامي متجردين من الضغوط السياسية والمادية ، فهي أرشد وأوثق وأوفق ، مع عدم إعمال اللسان أو الطعن في المخالفين من العلماء ، مع إيماننا أنهم في قولهم الذي خالفوا فيه المجامع العلمية قد خالفهم الصواب ، فهي منهم هفوة وزلة لا يقتدى بهم فيها .
والله أعلم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتبه محمد صفوت نور الدين